تثير الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المضطربة فى أوكرانيا مخاوف متزايدة من اندلاع احتجاجات جديدة فى الشارع، وبخاصة مع اقتراب إحياء الذكرى الأولى لثورة كييف فى 21 نوفمبر القادم. وأكدت هذه المخاوف أزمة استقالة رئيس الوزراء أرسينى ياتسينيوك قبل نحو أسبوع، ثم قرار البرلمان برفض الاستقالة، فقد أظهرت هذه الأزمة بصفة عامة أن الأمور فى أوكرانيا المتمردة على روسيا ليست على ما يرام، وأن الأزمة الداخلية التى تعانى منها أوكرانيا لا يلتفت كثيرون إليها بسبب الصراع الغربى الروسى الدائر فى شرق البلاد، الذى راح ضحيته 1129 قتيلا و3442 مصابا منذ منتصف أبريل وحتى 26 يوليو الماضيين، ويلقى بظلال وخيمة على الوضع الاقتصادى الكارثي، حيث بات شبح "الإفلاس" يطارد الدولة. وقد أثارت أزمة ياتسينيوك أقاويل عديدة، أولها يقول إن الاستقالة ورفضها يشيران إلى تخبط واضح فى هيكل القيادة السياسية "الثورية" التى تحكم أوكرانيا الآن، وثانيها يقول إن الرئيس بوروشينكو هو الذى كان يتمنى بالفعل استقالة الحكومة الآن تمهيدا لإجراء انتخابات تشريعية مبكرة فى أكتوبر، وهو ما كان سيضمن له تحقيق العديد من الأهداف، وعلى رأسها : أولا : ضمان الأغلبية فى البرلمان الجديد من أجل تمرير الموافقة على حزمة الإصلاحات المقررة من جانب صندوق النقد الدولى دون أدنى معارضة، خاصة من جانب حزب "باتكيفشتشينا" أو "الوطن" بزعامة يوليا تيموشينكو الذى يمثل أكبر قوة سياسية فى الائتلاف الحكومى وينتمى إليه كل من ياتسينيوك رئيس الوزراء المستقيل وأولكسندر تورتشينوف رئيس البرلمان. ثانيا : التخلص من حلفاء الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش الذين ما زالوا نوابا فى البرلمان، بمن فيهم الشيوعيون المتهمون بدعم الانفصاليين الموالين للروس، فى مقابل توسيع قاعدة حزبى أودار "اللكمة" بقيادة بطل العالم فى الملاكمة للوزن الثقيل فيتالى كليتشكو، وحزب "سفوبودا" أو "الحرية" بزعامة أوليه تياهنيبوك، وهما الحزبان الداعمان لبوروشينكو، مما يضمن إعادة تشكيل حكومة جديدة موالية له، الأمر الذى دعاه للترحيب من انسحابهما من الائتلاف الحكومي، والقول فى بيان خاص إن : "ذلك يدل على أن قسما من النواب ليسوا متمسكين بمقاعدهم وأنهم يدركون مشاعر الناخبين الذين باتوا ينشدون التغيير". وعلى منوال المشهد السياسى الضبابى يأتى الوضع الاقتصادى للبلاد أكثر ضبابية، الذى يمثل أساس الأزمة الأوكرانية الحالية، حيث كان تعليق اتفاقية المشاركة والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبى سببا مباشرا فى النزول إلى الشارع للإطاحة بالرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش، إلا إنه ورغم توقيع الاتفاقية فى بروكسل 27 يونيو الماضي، فإن الأوضاع لم تتحسن حتى الآن، بل وربما زادت سوءا، لا سيما فى ظل المعارك مع الانفصاليين الموالين للروس فى الشرق التى تستنزف خزينة الدولة، مما ساهم فى تقلص معدل نمو الاقتصاد الأوكرانى ليصل إلى 2,8% فى ظل نسبة بطالة 8,0% ومعدل تضخم بلغ نسبة 4,7%. هذا إلى جانب الخلاف ما بين الكتل السياسية حول تطبيق حزمة الإصلاحات المقررة من جانب صندوق النقد الدولي، مما دعا كريستين لاجارد رئيسة صندوق النقد لدعوة حكومة كييف إلى تطبيق «حازم» لبرنامج الإصلاحات المتفق عليه فى أبريل الماضي، حين وافق الصندوق على قرض هائل بقيمة 17 مليار دولار، وإلا تعليق المساعدات، الأمر الذى يعنى إعلان إفلاس الدولة، لا سيما فى ظل أزمة ديون خارجية مستحقة هذا العام تقدر بأكثر من 13 مليار دولار، زيادة على 16 مليارا ينبغى تسديدها قبل نهاية العام القادم 2015. وتقضى حزمة الإصلاحات الأوروبية برفع الدعم الممنوح لمختلف أنواع الطاقة وزيادة الضرائب مع معالجة التهرب الضريبي، إلى جانب تقليص الوظائف الحكومية، وتخصيص الشركات التابعة للدولة بما فيها مصانع الحديد المحرك الأول للاقتصاد، وهى الشروط التى وإن كانت ستحسن الوضع الاقتصادى للدولة، لكنها ستفضى بالضرورة إلى ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وبالتالى إلى احتجاجات شعبية جديدة. إن الوزن الثقيل للأزمة الأوكرانية يشير إلى أن معالجتها ستستغرق وقتا طويلا حتى وإن انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. ومما يزيد الأمر تعقيدا دور موسكو فى تفاقم الأزمة، نظرا لأهمية أوكرانيا لدى الروس التى لا تقتصر على الاعتبارات الاقتصادية والإستراتيجية، بل وكما قال لينين من إنه : "إذا فقدت روسياأوكرانيا فإنها سوف تفقد رأسها". وهكذا تبدو حسابات مكاسب وخسائر الثورة الأوكرانية معلقة بنتائج الحرب الباردة ما بين قوى الشرق والغرب التى أوقعت الدولة فريسة لخطر التفكك والتقسيم، ومن ثم سقوط رهان الشارع على إمكانية التغيير فى ظل استمرارية النظر إلى ثورة "الميدان الأوروبي" العام الماضى على أنها انتصار للغرب ردا على الهزيمة التى تعرض لها على يد روسيا عقب الثورة "البرتقالية" فى 2004، دون الالتفات إلى رغبة الشعب فى الحرية والاستقلال، مما جعله – أى هذا الشعب نفسه - ممزقا هو أيضا بين الشرق والغرب. ولهذا، ستستمر رحلة البحث عن منقذ جديد للأزمة!