مرة جديدة بعيدا عن السياسة وإشكالياتها، عبر استراحة محارب من عالم الدسائس والصراعات إلى عالم الثقافة والحوارات، وكذلك الهويات والحضارات، والتساؤل الذى يطل من نافذة الاحداث الكونية: هل تمضى البشرية على هذا الأساس فى طريق البحث عن عولمة يتبادل فيها الجميع الخدمات لتسهيل حياة إنسان القرن الحادى والعشرين بغض النظر عن الهويات والانتماءات المكونة للحضارات المتباينة، أم تعود البشرية إلى الوراء لتتقوقع على ذاتها ولترتد إلى ضيق التفكير القبلى والمجتمعات البطريركية المنغلقة؟. تستدعى أطروحة العولمة بالضرورة تساؤلات عدة كذلك ، فهل العولمة هى صيغة جديدة من صيغ المواجهة الحضارية التى يخوضها الغرب، بالمفهوم العام للغرب، ضد هويات الشعوب وثقافات الأمم، ومن أجل فرض هيمنة ثقافية واحدة، وإخضاع العالم لسيطرة حضارة واحدة؟. المؤكد انه ربما حان الوقت الذى تتوحد فيه الإنسانية من أجل بناء مفهوم إنسانى شامل، مفهوم ينتج لكل فرد الشعور بمكونات وعوامل انتمائية، لكن أيضا بقوميته ولغته ومعتقداته دون أن يكون مجبراً على الاختيار. فى هذا السياق علينا أن نميز بين مكونات القيم الأساسية للمجتمعات التى يجب أن تكون مشتركة وإن ظهرت مختلفة، فالعالم القابل للتقدم هو العالم الذى يستطيع كل فرد فيه أن يعبر عن آرائه باللغة التى يختارها ، والمعتقد الذى ينتمى إليه، ولا يشعر بأى نقص فى انتمائه لهذه الفئة أو تلك، وعلى السلطات والشعوب ألا تجعل ذلك مقياسا للتمييز ، وعندما لا يستطيع المرء أن يعبر بلغته عما يشعر به وعن معتقداته، وعن التعاون مع الآخر المختلف حضاريا ، فذلك يعنى أن العالم يسير إلى الوراء. هل من مقياس حضارى أولى يدلنا على اتجاه سير البشرية، بمعنى هل هى ماضية قدماً فى طريق الأسرة الكونية الكوسمولوجية الواحدة أم فى طريق الهوية القبلية؟. المقطوع به أن مقياس الحضارات اليوم هو قبل كل شيء تقبل الآخر خاصة الذين يستقبلون مهاجرين ينتمون إلى حضارات أخري، إذ يجب ألا يكون هذا الانتماء موضع مجابهة، وفى هذه المعركة تتحدد القيم الحضارية، فإن استطاع الغرب خاصة كسب هذه المعركة والانسجام بشكل حقيقى مع القيم التى يطالب بها، وهى قيم حضارية، عندئذ سيكون بمقدوره التغلب على جميع المشكلات التى تعترضه مع المهاجرين. هل الدور الحضارى الإنسانى الواحد فى أيامنا هذه بات فرض عين على سكان البسيطة كلها؟. هذا السؤال نطرحه من جانبنا، ومبلغ الرأى هو أن الإنسانية اليوم، وهى فى منتصف العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين تواجه أخطاراً جديدة لا مثيل لها فى التاريخ، وتحتاج إلى حلول شاملة مبتكرة، وإذا لم تتوافر هذه الحلول فى مستقبل قريب، فلن يكون بالإمكان الحفاظ على شيء من كل ما صنع عظمة حضارتنا الإنسانية المشتركة وجمالها. خذ إليك التغيرات المناخية على سبيل المثال، إنها اليوم التحدى الحضارى الحقيقى الأول والأخطر، وهو تحد يفرض على الجميع عملاً جباراً وأملاً خلاقاً، جباراً من ناحية تضافر جهود الشرق والغرب، الروس والأمريكان، الحضارات السلافية وتلك المسيحية، والحضارة الإسلامية ونظيرتها اليهودية، الكونفوشيوسية والبوذية، فكارثة تغير المناخ لن توفر بشراً على الأرض من تأثيراتها السلبية والكارثية. إن جميع شعوب الأرض اليوم فى مهب العاصفة بشكل أو بآخر سواء أكانوا أغنياء أو فقراء، مستكبرين أو خاضعين، محتلين أو تحت الاحتلال، فنحن جميعا على متن زورق هزيل، سائرين إلى الغرق إذا أبحرنا فرادى وليس جماعات، ومن أسف نبدو كبحارة يتصارعون فوق سفينة، ولا يكفون عن تبادل الاتهامات والمشاحنات غير آبهين لتعاظم أمواج البحر، بل من المؤسف هو أننا كثيراً ما نرحب بالموجات القاتلة إذا ما ابتلعت أعداءنا أولا إبان صعودها نحونا، ولا يشغلنا أن مصيرنا سيكون سيئا للغاية فى نهاية الأمر، كما يقول أمين معلوف فى «هوياته القاتلة». ما الذى يعوق تكامل الحضارات من أجل خدمة الإنسانية؟ ربما كانت فكرة القومية الحضارية من قبل البعض فى مواجهة البعض الآخر، الأمر الذى يمكن أن نطلق عليه غرور الحضارات، هو العائق الأول والأكيد، ولدينا فى فكرة الضرورة عند الرجل الأبيض تجاه تحضر بقية شعوب العالم مثال على هذا التفكير، وهو الأمر الذى انعكس لاحقاً على الحضارة الغربية بأكملها. غير انه من قلب العالم الفكرى الغربى كثيرا ما يخرج من يقر ويعترف بأن الحضارة الغربية لا تخلو من العيوب القاتلة، فقد استنفدت هذه الحضارة حصتها من الآثام التاريخية، بدءا بوحشية الاستعمار إلى ابتذال المجتمع الاستهلاكي، ويضاف إلى ذلك أن إغراقها فى المادية أدى إلى كل أنواع العواقب الوخيمة وليس أقلها تلك الرغبات التى شجع «فرويد» الغربيين على الانغماس فيها. ربما يحتاج الأمر منا بالفعل إعادة قراءة وتفكيك بل وتحليل وتوصيف لجوهر فكرة الحضارة، حتى نباعد بينها وبين تعبيرات مكذوبة أبوكريفية ، من عينة ما يعرف بالتنبؤات التى تسعى إلى تحقيق ذاتها بذاتها أى ال self prophecy ذلك أن أولئك الذين أرادوا «صراع الحضارات» كان مبلغهم فرض مقدرات هيمنتهم على العالم، بعد أن بدت البسيطة وقد دانت لقطب عالمى واحد منفرد بمقدرات وشئون العالم، وعليه يتوجب التمييز، بل التفريق باستمرار بين فكرة الشراكات الحضارية لخير البشرية، وبين صراعات القوة، فالقوة ميدان تصويب، وضرب نار، والحضارة شراكة ومحيط أنوار.