التمايز بين هويات الأمم والشعوب من حيث النشأة، وأنماط السلوك، واللغات، والتقاليد، والقيم الحاكمة، والمنجزات الحضارية لا يعنى بحال من الأحوال أن هويات الحضارات تتشكل فى معامل معقمة، وجزر فضائية كونية بعيدا عن التواصل والتأثر بهويات وقيم الحضارات الأخري. فالتواصل بين الحضارات والهويات تؤكده وثائق التاريخ وحقائق الجغرافيا؛ سواء كان هذا التواصل حاداً متمثلاً فى خوض معارك حربية مثل الحروب الصليبية بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، أو كان هذا التواصل ناعما على شكل طرق التجارة والمصالح الإقتصادية؛ مثل طريق الحرير الذى ربط بين قارات العالم القديم. فعبر العديد من أشكال التواصل الحادة والناعمة تنتقل القيم والتقاليد والعادات التى تساهم فى تشيكل الهويات الحضارية. وعند الحديث عن الهوية الحضارية الغربية، ولدى البحث عن مكوناتها الأصلية التى ساهمت فى نشأتها، وتشكل شخصيتها الخاصة يتضح دور التمازج والتفاعل بين الأحداث التاريخية، والأمكنة الجغرافية، مضافا لها التراث الإغريقى والرومانى، والتعاليم المسيحية، وأفكار فلاسفة الأنوار والحداثة الذين ساهموا فى بناء القيم الغربية الحديثة عبر نقد الثراث المقدس والصراع مع الكنسية وتقليص دورها فى الحياة الغربية بشكل كبير؛ مما ساهم فى القضاء على التعصب الدينى والطائفى الذى ساد فى القارة الأوربية لفترات طويلة. يُضاف إلي ما تقدم التأثير القيمي الإسلامي الذى نجد صده فى أفكار فلاسفة الأنوار الأوربيين. فمن خلال واحة التسامح والتعايش التى ترعرت في الأندلس الإسلامية انتقلت نسمات التسامح والتعايش للجسد الأوربي. فتذكر ماريا روزا مينوكال فى كتابها "زينة العالم"؛ أن قرطبة فى الأندلس الإسلامية كانت من أكثر الأماكن فى العالم تحضراً، ويرجع ذلك للعمل المشترك بين أميرها عبدالرحمن الثالث ووزيرة اليهودي "هازدى بن شبروت"، فى الوقت الذى كانت فيه أوربا غارقة فى الحروب الدينية والطائفية. وفى هذا الإطار كما يذكر—الدكتور رفيق عبد السلام— فى كتابه فى "العلمانية والدين والديمقراطية"، :"يأتى اتهام الكنسية البابوية فى معرض صراعها مع أباء البروتستنانت المنادين وقتها بالتخلي عما رأوه زهداً مصطنعا فرضته البابوية بعيداً عن تعاليم المسيح أتباع هذه النحلة" الناشزة" بالمحمديين"، مما يُشير فى وجهة نظرى إلى درجة من درجات التأثير الإسلامي فى تشكيل الهوية الأوربية الجديدة فى عصر الأنوار والحداثة. ويمكن الإبحار فى هذا الجانب الذى يتناول تاثير الحضارة الإسلامية فى الحضارة الغربية على مستوى القيم والمنجزات الحضارية من خلال كتب عدة أهمها كتاب "شمس الله تشرق على الغرب" للمستشرقة الإلمانية زيجرد هونكه. فالقيم الحضارية بين الهويات المختلفة مثلها مثل الطيور لاتعرف حدودا ولاسدودا، وتحط فى الأعشاش—الحضارات – التى توفر لها الدفء والإستقرار، فقد تغادر قيم عليا هوية ما لأنها أصبحت لا توفر لها مقومات النمو والإزدهار، وبالتالي تبدأ فى رحلة الهجرة نحو فضاء حضارى آخر أرحب مساحةً، وأوسع أفقاً، يوفر لها فرص النمو والترعرع. وكما حدث تواصل وتلاقح بشكل من الأشكال بين الحضارة الغربية والحضارة الإسلامية، حدث تواصل وتفاعل عميق بين كل من الحضارة الهندية والحضارة الإسلامية بشكل يتفوق على التواصل الغربي— الإسلامي بدرجات كبيرة؛ فيذكر الدكتور الهندي "أمارتيا صن"— الحائز على جائزة نوبل للسلام فى الإقتصاد عام 1988— فى" كتابة الهوية والعنف" قائلاً :" وصف الهوية والحضارة الهندية بالهندوسية فقط يقلل من قيمة الواقع، لإن الهند بها من المسلمين أكثر من أى بلد أخر فى العالم بإستثناء إندونيسيا وباكستان بهامش ضعيف للغاية"، ويكمل فى نفس السياق، :" من المستحيل أن نفكر فى حضارة الهند المعاصرة من دون ملاحظة الأدوار الرئيسة للمسلمين فى تاريخ البلاد، والواقع أنه سيكون من العبث أن نحاول الوصول إلي فهم طبيعة واتساع ما أنتجته الهند من فن، وأدب، وموسيقى، وسينما؛ أوحتى طعام، من دون رؤية المساهمات التى تأتي من كل من الهندوس والمسلمين بطريقة متداخلة تماما". الحضارة الإسلامية تشكلت هويتها وشخصيتها المميزة لها من خلال العديد من التفاعلات الثقافية، والقيمية والحضارية التى صُهرت فى بوتقة التاريخ والجغرافيا، فأخرجت لنا مولوداً جديداً إسمه الشعوب والأمم الإسلامية، فتكونت الهوية الإسلامية عبر استيعاب هويات الشعوب والأمم التى داخلها الإسلام وتفاعل معها فأخرج للوجود هوية جديدة تجمع بين حضارات هذه الشعوب ومنظمومة القيم الإسلامية، كما عبرت عن ذلك معادلة الدكتور جمال حمدان عندما اعتبر الحضارة الإسلامية نتاج تعاليم الإسلام، وتراث حضارات الأمم التى فتحها. كما أثرت الهوية الإسلامية فى الهويات الكونية الأخرى تأثرت هى أيضا بالهويات والقيم الحضارية المجاورة لها التى احتكت بها ثقافيا واقتصاداً وعسكريا؛ مثل الحضارة البيزنطية، والساسانية، وحضارة بلاد ما بين النهرين، ومصر، إلى جانب مؤثرات رومانية ويونانية وهندية وصينية وغيرها؛ وتتجلي بعض مظاهر هذا التأتير فى نظام الإدارة وتنظيم الأسواق والبيوع والضرائب وغيرها من الأشكال التنظمية الموروثة من هذه الحضارات. فالتداخل بين الهويات الثقافية والحضارية بين سائر الأمم حقيقة لا يقوى أحد من الباحثين على إنكارها والتغاضى عنها، وهي حقائق حضارية جلية وواضحة تشك في جدلية القول بأن هناك هويات تتفوق وتتفرد على سائر هويات الأرض بحكم أنها نشأت وتكونت فى بيئات معقمة، ولم تستفد من مكتسبات الأمم الأخري، مما يقودنا فى النهاية الى مايُعرف بسياسية العزل الحضارى التى دعا لها المؤلف الأمريكي المعروف صامويل هنتغتون "صراع الحضارات.