شهدت سياسة الولاياتالمتحدة منذ احتلالها العراق سلسلة متراكمة من الإخفاقات تشكل إرهاصات التراجع الأمريكى بل حتى الأفول فى هيمنتها الكونية. ويعود ذلك التراجع لأسباب ذاتية وموضوعية فى آن واحد. فالبعد الذاتى للتراجع فى الأداء السياسى يعود إلى رداءة القيادات السياسية سواء على الصعيد الخارجى أو على الصعيد الداخلي. وسبب ذلك هو طبيعة النظام السياسى القائم فى الولاياتالمتحدة الذى لم يعد قادرا على استيعاب التحوّلات الداخلية، سواء فى البنية السكّانية أو فى القاعدة الاقتصادية وما تفرزه من تناقضات داخل المجتمع الأمريكي. والتحوّلات فى البنية السكّانية كما فى القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الأمريكى هى نتيجة قرارات سياسية أخذتها النخب الحاكمة، سواء كانت جمهورية أو ديمقراطية أدّت إلى الواقع المأزوم حاليا. فعلى الصعيد السياسى الداخلى طبيعة النظام السياسى يتحكّم فيه المال. فما يُسمّى بالنظام الديمقراطى القائم على ثنائية الحزبين وتداول السلطة أصبح أسيرا للمجموعات الضاغطة، أى اللوبيات السياسية وغيرها. فالمال يتحكّم فى العملية السياسية التى تأتى بقيادات دورها الوظيفى خدمة تلك المصالح. نذكّرهنا أن الانتخابات الرئاسية الماضية وصلت كلفتها إلى ستة مليارات دولار للمرشحين، الرئيس اوباما ومنافسه الجمهورى ميت رومني. أى بمعنى آخر أن المسؤول السياسى أصبح مدينا بوجوده فى المنصب لمن موّل حملته الانتخابية. وينجر ذلك الأمر على كافة مستويات التمثيل السياسى المبنى على العملية الانتخابية. والأنكى من ذلك هو أن المحكمة الدستورية العليا، وهى من أرقى المؤسسات الدستورية التى أفرزتها الثورة الأمريكية فى القرن الثامن عشر وكرّس استقلاليتها عن السلطتين التنفيذية والتشريعية فى الدستور، اصدرت حكما قضائيا أصبح مرجعية أقوى من القانون، بأن الإنفاق المالى فى العمل السياسى هو نوع من التعبير. وبما أن الدستور ينصّ على حماية وحرية التعبير فلا يجوز عندئذ فرض القيود على الإنفاق المالى فى العمل السياسي. هذا يعنى بأن مجموعة المصالح الخاصة التى تموّل مختلف الحملات الانتخابية والتى تعمل جاهدة على التأثير فى التشريعات والقرارات السياسية، بل إن هناك من يقول إنها المشرّع الأساسي، وهى التى تتحكّم بالعملية السياسية. فالنظام السياسى القائم تحوّل من نظام ديمقراطى إلى نظام البلوطوقراسية، نظام حكم المال. وإذا قيّمنا الخط البيانى لنوعية القيادات السياسية التى تصدّرت المشهد السياسى الأمريكى منذ عدّة عقود نرى أنها مصابة بخلل إما فكرى وإما علمى وإما أخلاقى أو بعضها أو جميعها فى آن واحد، لأن الضعف فى الشخص مطلوب لتسهيل عملية الضغط عليه فى الوقت المناسب. نضيف إلى ذلك المأزق البنيوى فى الأداء السياسي. فالاستقطاب السياسى بين الحزبين أوصل النخب السياسية إلى طريق مسدود بسبب قواعد اللعبة الصفرية، أى كل فريق يعتبر أى إنجاز من الفريق الآخر هو خسارة له. وبالتالى أصبح جوهر العمل السياسى لكل فريق داخل الكونجرس الأمريكى تعطيل الفريق الآخر. هذا ما أدّى إلى صدور عام 2012 كتاب لمراقبين مرموقين واحد من الحزب الديمقراطى والثانى من الحزب الجمهورى (توماس مان ونورمان اورنشتين) عنوانه: «الحالة أسواء مما تتصوّرون». بطبيعة الحال المأزق الداخلى ينجر على السياسة الخارجية حيث فقدان التصوّر المشترك لما يمكن تسميته المصلحة الأمريكية العليا يؤدى بطبيعة الحال إلى الإرباك وعدم الوضوح فى رسم السياسة الخارجية. ولقد شاهدنا ذلك فى مختلف الملفات خلال العقد الماضى من أفغانستان إلى العراق إلى جورجيا إلى سوريا إلى ايران إلى أوكرانيا.. إلخ. النظام السياسى أصبح أسيرا للمصالح الخاصة التى تنجر على المشهد السياسى الخارجي. فالعلاقة العضوية بين القوى السياسية والمجمع العسكرى الصناعى الأمنى (ونضيف هنا المالي) يخضع لتجاذبات داخلية تنعكس على المشهد الخارجي. فشركات التسليح تستوعب بشكل منتظم القيادات السياسية عبر تمويل الحملات الانتخابية والقيادات العسكرية التى تتقاعد عبر فتح مجالس إداراتها أو عبر تشكيل مجموعات ضاغطة تقوم بالتأثير على التشريع لمصالحها. نلفت النظر هنا إلى أن الشركات المنتجة للسلاح متوزعة على مختلف الولايات لاستيعاب أكبر عدد ممكن من السياسيين الذين يدعمون تلك الشركات بحجة الوظائف التى توجدها لسكان الولايات. وينجّر ذلك أيضا على مؤسسات كمعاهد الدراسات وخزّانات الفكر التى تسهم فى توجيه صنّاع القرار الخارجى والداخلي. من هنا نجد أن هذه النخب المرتبطة بذلك المجمع بحاجة إلى «عدو» يبرّر النفقات الهائلة لوزارة الدفاع والتى تسهم فى تشغيل العجلة الاقتصادية فى الولاياتالمتحدة. نلفت النظر أنه يوجد اكثر من 270 ألف شركة مقاولة تتعامل مع وزارة الدفاع. فإذا ما افترضنا أن متوسط عدد العاملين فى تلك الشركات هو مائة عامل فهذا يعنى أن عدد العاملين فى الصناعات والخدمات المرتبطة بوزارة الدفاع يقارب ثلاثة ملايين عامل والرقم الفعلى هو أكثر من ذلك بكثير. ناهيك أن النفقات على الأبحاث العلمية المرتبطة بالشأن العسكرى، سواء فى الشركات الصناعية أو الجامعات الأمريكية أو معاهد الأبحاث هى التى تشكّل القاعدة العلمية والتقدّم التكنولوجى التى تميّز بهما الاقتصاد الأمريكي. فمعظم آلات التواصل والاحتساب التى تملأ الفضاء الاستهلاكى فى الولاياتالمتحدة وفى العالم من إنتاج تلك العلاقة بين البنتاجون والمجمع العسكرى الصناعي. سقوط الاتحاد السوفيتى أفقد الولاياتالمتحدة العدو الذى كانت تعبّئ حوله وضدّه كافة طاقتها الشعبية والمادية. وبالتالى أصبحت بحاجة لعدو جديد وما نشهده من سياسات مدمرّة فى المنطقة هو من تداعيات ذلك التصوّر الضرورى لاستمرار العجلة العسكرية الصناعية فى الولاياتالمتحدة. لكن التحوّلات الديمغرافية التى تحصل داخل الولاياتالمتحدة وفى المزاج الشعبى الرافض للمزيد من حروب خارجية بينما الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى حالة ترهّل، هذه التحوّلات أربكت النخب الحاكمة فى صوغ سياسات خارجية تجمع بين المصالح الخاصة واستمرار تلك النخب. من هنا نفهم الارتباك فى الموقف السياسى الذى عليه أن يأخذ بعين الاعتبار المزاج السياسى الشعبى الرافض للمغامرات العسكرية وبين المصالح العائدة لمؤسسات المجمع العسكرى الصناعي. وبسبب ضيق المساحة لن نسترسل فى شرح تلك التحوّلات، وهذا ما سنقوم به فى وقت لاحق كما سنعالج المشهد الاقتصادى وتداعياته على السياسة الخارجية. لمزيد من مقالات ◀د. زياد حافظ