نأمل أن ندشن بقدوم الرئيس عبد الفتاح السيسى الجمهورية الثانية، جمهورية المواطنة، باعتبار أن ما سبق (1952 2014) تنويعات على تجربة ممتدة باختلاف التوجهات والخيارات، اتفقت فى مجملها على غياب الفعل المؤسسى وربما تغييبه، واعتمدت على شخص الرئيس، وانتقلت تتابعاً من الحالة الثورية الى الإنقلاب عليها، ثم الى الجمود ثم السير عكس اتجاه التاريخ فى مرحلة الجماعة، التى لم تدم طويلاً بفعل الحس الشعبى الذى انتفض مجدداً فى استحضار لمخزونه الحضارى القابع تحت جلده، وبمساندة جيشه الوطنى فى لحظة حياتية فارقة. وكانت معركة الإنتخابات الرئاسية لحظة فرز كشفت عن المواقف الحقيقية والأثقال الواقعية لقوى عديدة، بما يضئ الطريق أمام القادم، من ساند ومن ناور ومن أظهر خلاف ما ابطن، فضلاً عن أزمة شريحة لا يستهان بها من الشباب، الحائر بين حلم يخايله وواقع يقاومه، وتيارات تتجاذبه، وإعلام يفتقر فى كثير منه الى المهنية، وكاد يستحضر نموذج الدب الذى قتل صاحبه، لولا الحس الشعبى المتيقظ، والذى استفتى قلبه وضميره الوطنى. الجمهورية الثانية لا يصلح معها التعاطى الحالى للحالة المصرية، والمتوزع بين أحزاب اختلفت فى طرق قدومها ما بين أحزاب ورقية ولدت بقرار رئاسى قبل اربعة عقود، وأخرى عائلية لا تزيد عن مقر وجريدة، وثالثة استثمارية تؤمن مصالحها الضيقة ، ورابعة ماضوية تسللت من ارضية دينية مازالت تلتف على القواعد الدستورية التى تحول دون تأسيس احزاب دينية، بالاحتماء بتأويلات مخاتلة ومراوغة. بينما القوى صاحبة الحق فى الثورة لم تبلور توجهها بعد فى كيانات سياسية حقيقية تعبر عنها، وتدافع عن مصالحها، وهى الأقدر على تشكيل ودعم محاور الدولة فى طورها الجديد الساعى للخروج من النفق الطويل واللحاق بركب التقدم. جزء من التحديات القائمة أننا مازلنا ندور فى فلك الأيديولوجيات التى انتجتها صراعات الثورة الصناعية بشكلها التقليدى، بين اليسار واليمين، والتى خلخلتها ثورة الإتصالات والمعرفة بمعطياتها الجديدة، وقد انتبه الشباب المصرى بفطرته السليمة الى هذا وترجمه فى شعاره الأبرز والأبقى "عيش حرية كرامة انسانية عدالة اجتماعية"، وهى نفس اركان نظرية الديمقراطية الإجتماعية التى تتشكل فى العالم الأول والتى تتبنى استكمال الحقوق السياسية والمدنية الأساسية بحقوق اجتماعية واقتصادية من اجل تحقيق ظروف حياتية جديرة بالكرامة الإنسانية لكافة البشر. والمتابع لحوارات السيد الرئيس فى اطار التعرف عليه فى مرحلة الترشح للانتخابات الرئاسية يضع يده على تبنيه لهذه المفاهيم، عندما كرر فى أكثر من موقع حتمية عودة الدولة لممارسة دورها فى ضبط السوق بآليات تملكها بعيداً عن الاشكال التقليدية التى تطرحها نظريات ملكية الدولة لأدوات الانتاج والتسعير الجبرى وغيرها، ثم تأكيده على تبنى مشروعات التنمية البشرية والتى تحول الزيادة السكانية من صداع مزمن الى قيمة انتاجية ومورد بشرى يشكل أحد أهم محاور العملية الإنتاجية ويمثل قيمة مضافة للاقتصاد القومى، من خلال اعادة رسم خريطة المحافظات باضافة ظهير صحراوى وامتدادات تصل البحر الاحمر ببعضها، حتى تخلق كيانات اقتصادية انتاجية متكاملة تجعل الخروج من حزام "العوز" بحسب تعبيره أمرا ممكناً نلمس أثاره خلال شهور معدودة وتكتمل ملامحها المؤثرة خلال عامين. وتأكيده على اعادة الإعتبار لقيمة العمل الجاد والمضنى كطريق أوحد لزيادة الإنتاج، وتوفير فرص العمل دون وساطة أو محاباة كدأبه فى سابق مهامه. ويتفق طرح السيسى مع طرح مشروع الديمقراطية الاجتماعية حين ركز على حتمية استعادة منظومة الأخلاق التى تم تجريفها عبر عقود ممتدة، ليس فقط باعتبارها قيما طوباوية، دينية، لكنها تؤسس لبناء حائط صد بشرى ضد الفساد والأثرة والتكالب على المغانم. على أن البداية تتطلب الإلتفات الى الشباب فى مجمله باعتباره نصف الحاضر ويزيد وكل المستقبل، وبخاصة الشريحة التى تبنت توجه المقاطعة، لا باعتبارهم فصيلا سياسيا مناوئا فهم ليسوا كذلك بل باعتبارهم القوة الفاعلة فى اى مشروع تنموى وتنويرى. وبالتوازى يجب الإنتباه لمجموعات المصالح الضيقة التى تجيد التلون مع كل قادم وتبادر بحنكة وخبرة بتبديل الثياب والأقنعة، لتشكل حاجزا بين الرئيس والشارع، كدأبهم، ويصبح من الضرورى استبعادهم من دوائر اتخاذ القرار أو التأثير فيه، وفى نفس السياق يتوجب أن يبادر الرئيس بتأسيس ظهير سياسى تنظيمى يتبنى رؤى المرحلة ومتطلباتها، على وجه السرعة، يضم قوى الشباب الثورى ويتصالح معهم، ويكون له وجوده الفاعل فى معركة الإستحقاق الثالث لخارطة الطريق "انتخابات البرلمان"، حتى لا نتركه للقوى المناوئة للثورة وللنظم الغاربة فتقفز منه الى تقويض كل مكتسبات 30 يونيو، فى ضوء السلطات والصلاحيات المخولة لمجلس النواب بحسب الدستور الجديد. تبقى مهمة تجفيف المنابع التى انطلقت وتولدت منها أزمات الشارع والمواطن، بعيداً عن اطروحات النخب التى تميل للتنظير، بالإقتراب من رؤى الشعب الذى لم يبن اختياراته على خلفيات سياسية ايديولوجية ، بل كانت نتاج اجتماع الخوف والحلم، وهو حمل ثقيل على كاهل الرئيس فى لحظة عصيبة من تاريخنا. وعلى الشباب الحذر من أن تتلبسهم حالة من المكارثية تفتش عن اصحاب المواقف المخالفة، والتى تكشف عن ازدواجية التغنى بالديمقراطية واستنكار وقائعها، مكارثية تستغرقنا فلا ننتبه للنار التى مازالت تسرى تحت الهشيم، وعلينا أن نفكر بعقل بارد عن طرق دعم الرئيس السيسى كل بقدر موقعه وما يملك وما يفكر لحساب وطن يستحق. دعونا نختلف دون ان ننسى الدور الوطنى الذى قام به السيد حمدين صباحى، وجسارة اختراق حاجز التحدى، وقدم نموذجاً مصرياً وطنياً يستحق الإشادة بل والتكريم أيضاً بما يتفق وقامة مصر وقيمتها. لمزيد من مقالات كمال زاخر موسى