لقد اعتمد الحكماء في بحثهم عن الحقيقة منذ القِدم على الدليل العقلي البرهاني كحاكم وحيد في إفادة اليقين الصادق في بناء رؤيتهم الكونية النظرية عن الإنسان والعالم. ثم أقاموا على أساس هذه الرؤية أيديولوجيتهم العملية في الأخلاق والسياسة، ودونوا كل ذلك في كتبهم بنحو منطقي متقن، ومتسلسل. وهو ما سوف نتعرض لبيانه بنحو مختصر بعد ذلك إن شاء الله تعالى. ولكن ما نريد أن نشير إليه الآن هو أنه وعلى مر التاريخ توجد ثلاثة اتجاهات فكرية مناوئة للمنهج العقلي خالفت الحكماء في منهجهم العقلي البرهاني، لدوافع عصبية أو فئوية أو سياسية، لا مجال لذكرها هنا، وسلكوا مسالك معرفية أخرى أوقعت البشرية في محن وأزمات كبيرة، وصراعات مؤسفة، مازالت البشرية تعاني منها ومن مآسيها: الاتجاه الأول: هو الاتجاه الحسي، الذي يعتمد المشاهدات والتجربة الحسية وسيلة وحيدة للتعرف على الواقع، ولا يؤمن بما وراء الحس، وبالتالي ينكر كل ما هو مما وراء الطبيعة من الغيبيات، ويتبّنى الرؤية الكونية المادية التي تنكر بطبيعة الحال المبدأ الإلهي والمعاد الأخروي، وتنظر إلى الإنسان على أنه ذو طبيعة واحدة، وهى الطبيعة المادية الجسمانية. وبناء عليه فهو يتبنى ما ينسجم مع رؤيته المادية من الأيديولوجيات الوضعية غير الدينية يمينية كانت أو يسارية في الأخلاق والسياسة. وهذا هو الاتجاه السائد في الغرب منذ قرون مديدة، والذي انعكست آثاره بشدة على العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين، على إثر البعثات العلمية التعليمية للجامعات الغربية، حيث عاد بعض هؤلاء من المنهزمين أمام أنفسهم والمتشبعين بالثقافة الغربية المادية، والحاملين للشهادات العلمية العالية؛ ليروّجوا لهذه الثقافة المادية الجديدة. عادوا إلى بلدانهم المستضعفة مبشرين ومنذرين، مبشرين بالحضارة الغربية الحديثة، واصفين كل من تابعها بالتمدن والعقلانية، ومنذرين من التصدّي لها أو رفضها، واصفين كل من خالفها بالتخلف والظلمانية. والعالم الغربي وإن كان قد حقق الكثير من الإنجازات العلمية والتكنولوجية على المستوى المادي، إلا أنه قد أوقع البشرية في مستنقع المادية والشهوات، وأضاع القيم والمبادئ المعنوية والإنسانية. ويمكن الإشارة القصيرة إلى العواقب الوخيمة التي لحقت بالبشرية من وراء هذا الاتجاه المادي: أولا شيوع الأفكار الإلحادية والاتجاهات المعرفية التشكيكية والنسبية، التي أوقعت الكثير من المفكرين والمثقفين في الحيرة والضلال، بعد ضياع الموازين العقلية الضرورية. ثانيا تفشّي ظاهرة الانحلال الخلقي والتفكك الأسري، والأمراض النفسية. ثالثا شيوع الجريمة المنظمة والإرهاب الدولي، وفقدان الأمن الاجتماعي. رابعا سيطرة الأشرار والأنظمة السياسية المتغطرسة على العلماء، ومراكز البحث العلمي، وتوجيهها نحو إنتاج أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الكيمائية والبيولوجية، وتسخيرها بما يخدم مصالحهم غير المشروعة، وبما ينافي المصالح العليا للإنسانية. خامسا ظهور الحركات الإمبريالية الاستعمارية، التي نهبت ثروات الشعوب المستضعفة، ودمرت مقدراتها. سادسا إشعال الفتن والحروب الإقليمية والعالمية، التي قضت على الأخضر واليابس، وسفكت الدماء البريئة، وأهدرت الأموال والطاقات. ولهذا الاتجاه الذي اعتمد المشاهدات الحسية كوسيلة وحيدة للمعرفة الكونية، فنقول له: إن الحس وإن كان ناقلا أمينا للمعلومات الخارجية كما يعتقد الحكماء إلا أنه لا يدرك إلا ظواهر الأجسام الطبيعية، كالألوان والأشكال وسائر المحسوسات المادية التي يتصل بها الحس مباشرة، ولا يدرك حقائقها وأسبابها الباطنية، فضلا عما وراء الطبيعة. فالحس إذن يدرك ظواهر عالم الطبيعة لا غير، ولا يدرك بواطنه وحقائقه الذاتية، فضلا عن عالم ما وراء الطبيعة. كما أن الحس لا يدرك القضايا البديهية الأولية، كامتناع اجتماع النقيضين، واحتياج كل ظاهرة حادثة في العالم إلى سبب (قانون العلية)، وغيرها من البديهيات العقلية التحليلية غير المدركة بالحس. وهي قضايا تعتبر من أسس العلم والمعرفة كما أشرنا قبل ذلك والتي بدونها ينتفي أصل العلم والمعرفة. فالحاصل أن الإصرار على اعتماد الحس دون غيره من الأدوات المعرفية، والتنكر لكل ما هو غير محسوس، واعتباره من مقولة الوهم والخرافة، هو محض تحكم وتعسف لا أساس له، يؤدي بنا إلى التشكيك والسفسطة، وإلى حرمان البشرية من الإطلاع على العوالم الغيبية، التي على رأسها حقيقة الإنسان، والمبدأ الإلهي الأول للوجود، كما يجرّنا إلى الاستخفاف بالقيم المعنوية والدينية؛ الأمر الذي أوقع البشرية في دوامة الحيرة والضلال، وأغرقها في مستنقع المادية والشهوات.