جمال حمدان لا يقل تأثيره في ميدان العلوم الاجتماعية عن تأثير مؤرخ فرنسا الكبير «بروديل» مؤسس «مدرسة الحوليات» والذي أحدث أكبر ثورة في علم التاريخ، تماما مثلما أحدث جمال حمدان أكبر ثورة في علم الجغرافيا، لأنه حولها إلي علم اجتماعي موسوعي شامل،واستطاع بذلك أن يعالج كل أمور مصر الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الرفيعة. فقد كانت تربطنى به صداقة عميقة،ولكنها أبدا لم تحرمنا من متعة الاختلاف الفكري أحيانا، و كان يتقبل النقد بصدر رحب ويجيد الحوار الفكري المسئول .ألف جمال حمدان عديدا من الكتب ولكن مما لاشك فيه أن كتاب «شخصية مصر» هو واسطة العقد بين كتبه جميعا. وقد سبق أن دعتني مجلة «عالم الكتب» لكتابة عرض نقدي للمجلد الثالث من الكتاب،وأثناء دراستى للكتاب تساءلت منذ البداية كيف يمكن أن يكون كتاب« شخصية مصر» كتابا في الجغرافيا ألفه أستاذ للجغرافيا ؟ فالجغرافيا بالنسبة لكثيرين قبل ظهور هذا الكتاب كانت علما وصفيا بعيدا عن مناقشة أمور المجتمع من سياسة واقتصاد واجتماع ،بل ونواح استراتيجية , ولكن ظهور حمدان أدى إلي ثورة في الكتابة الجغرافية، فلأول مرة تصبح الجغرافيا علما جماهيريا. استطاع حمدان بعبقريته الفذة أن يجعل الحقائق الجغرافية عن مصر تتسرب إلي عشرات الألوف الذين أقبلوا علي قراءة الكتاب من خلال تبنيه لمفهوم واسع وعريض لعلم الجغرافيا. فقدم تعريفا للجغرافيا بأنها «التباين الأرضي» أي التعرف علي مختلف المستويات ثم ما لبث أن أضاف : من الطبيعي أن تكون قمة الجغرافيا هي التعرف علي شخصيات الأقاليم .والشخصية الإقليمية عنده هى شيء أكبر من مجرد جسم الإقليم وحسب ،إنما هى تتساءل أساسا عما يعطي المنطقة تفردها وتميزها بين سائر المناطق محاولة أن تنفذ إلي روح المكان لتستشف عبقريته الذاتية التي تحدد شخصيته الكامنة ،وهكذا يضع حمدان القارئ علي بداية الطريق الطويل الذى يصطحبه فيه. وحمدان لم يقنع بأن يقدم تعريفا واسعا للجغرافيا، ولكنه قام بالتطبيق الفعلي من خلال موسوعته لكي يثبت أن الجغرافي قادر علي التصدى لموضوعات التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإستراتيجية. ويشير حمدان منذ البداية إلي التمييز المهم بين دراسات الشخصية الإقليمية والشخصية القومية ،ويقرر أن دراسته هي دراسة شخصية مصر لا الشخصية المصرية. إن منهج حمدان يتسم بكونه منهجا تكامليا ينظر للظاهرة في شمولها ولا يكاد يترك جانبا لا يخضعه لمجهره الدقيق ولا يعرضه لقلمه الذى يسمو لمستوى الشعر أحيانا،ويحتد حين يغضب ويصبح كالمشرط القاطع. نحن أمام رجل يمتلك نظرة إستراتيجية للعلم الاجتماعي، ويؤمن في أعماقه بوحدته ، ليس ذلك فقط بل بوحدة العلوم الاجتماعية والطبيعية ،وهو لذلك ينتقل بسلاسة نادرة من الجغرافيا إلي التاريخ إلي الاقتصاد إلي الإستراتيجية ،ويساعده في ذلك ثقافة موسوعية، وربما قبل ذلك أسلوب متفرد قادر علي النفاذ إلي جوهر الأشياء من خلال قدرة متميزة علي التكثيف والتركيز، ومما لا شك فيه أن جمال حمدان من عشاق جوامع الكلم، وهو يهوى تلخيص بعض التعميمات الجارفة في عبارات موجزة، وأحيانا يؤدى ذلك إلي تبسيط بعض القضايا المعقدة بطريقة اختزالية قد لا تتفق مع تعدد جوانبها. والكتابة عند حمدان أساسا عمل نقدى في المقام الأول ،وليست مهمة الكاتب إرضاء شهوات الجماهير وتملق عواطفها بالتمجيد والمبالغة في تصوير الايجابيات ونفي السلبيات.ولا يتسم منهج حمدان بأنه منهج تكاملي ونقدى فقط ، بل إنه حين يعرض للموضوعات الخلافية الكبرى - ومن أمثلتها البارزة قضية ايجابيات وسلبيات السد العالي - يبدو مسيطرا تماما علي المنهج الجدلي من خلال قدرة فائقة علي عرض الأفكار ونقيضها واستخلاص التركيبات الفكرية. إن كتاب «شخصية مصر دراسة في عبقرية المكان» سيبقي معلما من معالم الإبداع العلمى المصرى ، وسيظل شاهدا علي أهمية دور العالم الاجتماعي الملتزم بقضايا أمته، والقادر بناء علي دراسته العميقة أن يشخص الحاضر ويستشرف آفاق المستقبل.