أ ش أ: فى الذكرى الثلاثين لتحرير سيناء -يطيب الحديث عن "الأرض" بين عبقرية المكان وعبقرية الإنسان واستدعاء أسماء مبدعين كبار عبروا دوما عن الضمير الوطني والإنساني بقدر ما قد تكون هذه المناسبة العزيزة فرصة لإثارة تساؤلات قلقة حول "مدى حضور الأرض فى المشهد الثقافي المصرى الراهن" بالمقارنة مع إنجازات شامخة للثقافة المصرية في مراحل مضت. وفى منجزه الثقافي الشامخ:"شخصية مصر..دراسة في عبقرية المكان" تتجلى سيناء بحضورها عبر المكان والزمان والإنسان- فيما يقول الحاضر الغائب جمال حمدان: "إن تكون مصريا فهذا يعنى في الواقع شيئين في وقت واحد:الأرض والشعب".
وعن الصحراء يقول المفكر الاستراتيجي المصري الفذ جمال حمدان: "ما من شك أن الصحراء قد أهملت وطال إهمالها ومن الصعب أن نزعم أن الإنسان المصري هذا الإنسان النهري النيلي كان إنسانا صحراويا بالدرجة الكافية أو الواجبة".
ويضيف:"حتى قريب اقتصر استثمار الوادي للصحراء تقليديا على الاستغلال لا التعمير..على التعدين لا التوطين..ولكن هذه السياسة السلبية ولا نقول الاستلابية لم تعد يقينا لتكفى أو تصلح" منوها بأنه إذا كانت "الصحراء الغربية هبة الواحات فان الصحراء الشرقية هبة المعادن".
وينبه جمال حمدان إلى أن "غزو الصحراء ليس نزهة جغرافية أو حضارية وإنما هو صراع كفاحي ضد الطبيعة لكن المزيد من الدراسة العلمية والتخطيط الرشيد بعيدا عن اليأس المثبط وعن الإسراف في التفاؤل المجنح كذلك جدير بأن يفتح عصرا جديدا مجيدا وعالما جديدا شجاعا في الصحراء".
وسيناء التى نحتفل اليوم بالذكرى ال30 لعودتها كاملة محررة للوطن تقدم إجابة مركزية للمعضلة التى لخصها جمال حمدان فى تجاوز عامل التزايد السكاني لإمكانات الأرض في الوادي حتى "وصل الطفح السكاني إلى مداه".
ويخلص جمال حمدان فى ملحمته العلمية الكبرى التي تجاوز مجموع صفحاتها 4 آلاف صفحة من القطع الكبير إلى أن "المستقبل للصحراء ولكن الكلمة الأخيرة للمستقبل في مصر التي تشكل أقدم وأعرق دولة في الجغرافيا السياسية للعالم وهى غير قابلة للقسمة على اثنين أو أكثر مهما كانت قوة الضغط والحرارة".
ويتردد السؤال بقوة وإلحاح: أين جديد الأعمال فى الثقافة المصرية بما يضارع الإنتاج الفذ للمفكر الاستراتيجي والعالم الجغرافي جمال حمدان وأين الأعمال الإبداعية عن الأرض التي يمكن أن تضارع "أرض" عبد الرحمن الشرقاوي، ناهيك عن وضع السينما الآن وهى التي سبق وان ترجمت بلغة الفن السابع إبداع الشرقاوي في الفيلم الشهير "الأرض" بتوقيع مثقف مصري آخر هو المخرج الراحل يوسف شاهين؟!
وتوصف "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي بأنها من أروع الأعمال الإبداعية التي تكشف عن مدى قوة الارتباط غير العادي بين الإنسان المصرى والأرض وهو الارتباط الذي يكاد يصل لحد التوحد في شخصية الفلاح المصري محمد أبو سويلم.
ورغم ضجيج العبارة وصخب الكلام أحيانا في راهن المرحلة فإن الأعمال الثقافية المصرية عن تداعيات المكان تكاد تكون غير محسوسة أو أنها غابت أو غيبت خلافا لواقع الحال فى الثقافة الغربية حيث المكان موضع بحث دائم وجدل خلاق وأفكار مبتكرة وقد توغل في الماضي لكن عينها على المستقبل.
وها هو كتاب جديد يصدر بعنوان "لندن في القرن الثامن عشر" حيث يتوغل المؤلف جيرى وايت فى فضاء المكان والزمان للعاصمة البريطانية بحفر معرفي لينتج رؤية مركبة جديدة ورحبة للمدينة التي صدر ويصدر عنها عشرات وعشرات الكتب.
وفي هذا الكتاب الجديد الذي يتوزع على خمسة أقسام أو محاور هس: المعمار والمباني وأنماط العيش والحياة ونطاق الحيز المعمور وأفانين الثقافة وأنماط السلطة، يؤكد جيرى وايت على أن لندن كانت بالفعل المدينة الأكبر فى أوروبا مع فاتحة القرن الثامن عشر ثم أصبحت المدينة الأكبر في العالم مع بداية القرن التاسع عشر.
لكنها كانت أيضا المدينة التي جمعت مابين الحياة الأكثر روعة وسحرا لفئة محظوظة والأكثر بؤسا وشقاء لفئة خاصمتها الأيام وغابت عنها رحمة لندن التى ركز الكاتب جيرى وايت على أبراز التناقضات فيها ليتناول باسهاب تاريخ العنف والتنافر والانقسامات بين البشر فى المكان ابان القرن الثامن عشر كزمن محورى للكتاب الجديد.
واذا كان جيرى وايت يتعرض فى كتابه الجديد عن لندن كمكان وبشر لقضية التجانس الثقافى فان الراحل المصرى العظيم جمال حمدان يؤكد فى عمله الموسوعى :"شخصية مصر.. دراسة فى عبقرية المكان" على ان مصر لم تعرف الفصل أو العزل الجنسى او الثقافى وتحولت كمكان عبر التاريخ إلى بوتقة انصهرت فيها كل عناصرها ومكوناتها الرئيسية بالاختلاط والذوبان والامتصاص ليندمج الكل فى مزيج من التجانس العرقى والحضارى .. الطبيعى والثقافى والدينى واللغوى.
كل ذلك يومئ لطبيعة الشخصية المصرية المتسامحة والتى تبغض العنف والدم واللافت من باب المقارنة ان المؤلف جيرى وايت يبرهن فى كتابه الجديد على أن أحداث شغب استمرت أسبوعا واحدا فى لندن عام 1780 وعرفت "بهوجة جوردون" أسفرت عن خسائر فى الممتلكات تزيد عشر مرات عن كل خسائر باريس على امتداد احداث الثورة الفرنسية.
ولعل الانجاز الجدير بالتقدير فى كتاب كهذا يتحدث عن المكان والزمان، أن جيرى وايت نجح بمنهج متميز للتاريخ الاجتماعى فى استنطاق المكان عبر البشر الذين عاشوا فيه إبان القرن الثامن عشر سواء كانوا من المشاهير أو المغمورين وسواء كانوا من الرجال أو النساء..وهذا أحد معانى وتجليات انتاج الرؤى المعرفية الجديدة.
وإذا كان الغرب قد طور علم "الجغرافيا الثقافية" متخصص يركز على أهمية الدور الجغرافى فى تفسير الظواهر الإنسانية كما يتجلى مثلا فى كتاب "الجغرافيا الثقافية" لمايك كرانج فإن المصرى المبدع جمال حمدان سبق وأن أوضح بتنظير مصرى أصيل أن "الجغرافيا هى فلسفة المكان..فلسفة الأرض".
ولم تعد "الجغرافيا الثقافية" مجرد حقل معرفى فرعى من الجغرافيا البشرية وإنما باتت تنهض بدور اساسى فى كثير من العلوم الانسانية بقدر ماتوفر للباحث منظورا جديدا فى ظل مقاربات نقدية متعددة منطلقة من فرضية جدلية حول أهمية المكان فى بلورة الثقافة وأهمية الثقافة فى تشكيل المكان.
ومن الطريف ان يقول جمال حمدان:"قد لا تكون الجغرافيا قمة العلوم ولكنها بالتأكيد قمة الثقافة..الجغرافيا هى اعلى مراحل الثقافة وهى علم الثقافة الأساسى بدونها انت غير مثقف مهما فعلت وبها أنت مثقف مهما قصرت" فالجغرافيا على حد وصفه الآخاذ "شعر العلم".
وواقع الحال ان المكان يتغير ويتطور حتى على المستوى النفسى وعلاقته بالبشر..ألم يقل الشاعر الفلسطينى الراحل محمود درويش:"ليس المكان مكانا حين تفقده..ليس المكان مكانا حين تنشده"؟!
يقول الشاعر الأمريكى الراحل "تى.اس.اليوت" والذى وصف بأنه من اعظم الشعراء فى تاريخ الانجليزية ان الثقافة اسلوب حياة موضحا فى كتابه:"ملاحظات حول تعريف الثقافة" الذى صدر عقب الحرب العالمية الثانية ان اسلوب الحياة هذا يرمى لتحقيق التماسك سواء على مستوى الفرد او المجتمع.
ونموذج الشاعر اليوت لن يختلف فى جوهره عن مفكر مثل جمال حمدان او روائى كعبد الرحمن الشرقاوى وشاعر كأمل دنقل..فالنموذج يبقى شاهدا على المبدعين الأحرار الذين قامت على أكتافهم إنجازات مشهودة فى ثقافات شعوبهم بقدر ما يشهد على الوفاء لقضايا الانسان ابن المكان والزمان.
وتبقى قصيدة "لا وقت للبكاء" التى ابدعها الشاعر الراحل امل دنقل يوم رحيل الزعيم جمال عبد الناصر حاملة دلالات عبقرية للعلاقة بين المكان والزمان فضلا عن نبوءة النصر التى اطلقها شاعر من قلب مصر المكلومة فى ساعة الحزن العظيم.
هاهى بعض المقاطع من قصيدة امل دنقل التى كتبها بمداد القلب والروح المصرية يوم الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1970:"لاوقت للبكاء..فالعلم الذى تنكسينه على سرادق العزاء منكس فى الشاطىء الآخر..والأبناء يستشهدون كى يقيموه على تبة".
"الشمس هذه التى تأتى من الشرق بلا استحياء كيف ترى تمر فوق الضفة الأخرى ولا تجيء مطفأة؟..وهذه الخرائط التى صارت بها سيناء عبرية الأسماء..كيف نراها دون ان يصيبنا العمى"؟!..الجمد فى الدلتا ليس لهم أن ينظروا إلى الوراء أو يدفنوا الموتى إلا صبيحة الغد المنتصر الميمون".
ومن قلب الحزن العظيم ساعة الرحيل المباغت لجمال عبد الناصر يطلق أمل دنقل نبوءة التحرير والنصر التى لم يلتفت لها كثير من النقاد بصورة كافية:"والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد المحزون..لقد رأيت ليلة الثامن والعشرين من سبتمبر الحزين: رأيت فى هتاف شعبي الجريح..رأيت خلف الصورة وجهك يا منصورة..وجه لويس التاسع المأسور في يد صبيح".
"رأيت فى صبيحة الأول من تشرين..جندك يا حطين..يبكون لا يدرون أن كل واحد من الماشين فيه صلاح الدين"..وهاهي نبوءة الشاعر فى ساعة الحزن العظيم بتحرير الأرض تعيد للأذهان تعريف جمال حمدان للمثقف بأنه "الانسان الذى يتجاوز دائرة ذاته والقادر على أن يجعل مشاكل الآخرين هموما شخصية له..هو ضمير عصره وسابق لعصره في إدراك الخطر المستقبلى والحلم بالمستقبل..يتوقع ويتنبأ..كلى شمولى الرؤية لايضيع فى التفاصيل وصاحب نبؤة".
وفى الذكرى الثلاثين لتحرير سيناء يبقى الحلم المصرى متوهجًا.. حلم الشهيد وحلم الشاعر وحلم المثقف الذى عبر عنه جمال حمدان.