أصبحت الإضرابات من مظاهر الحياة اليومية فى مصر والكل يطالب بزيادة الدخل وبالحد الأدنى للأجور والذى بدلا من أن يكون سببا للتهدئة أصبح هو المشكلة فى كيفية تطبيقه. والملاحظ أن غالبية الإضرابات فى شركات قطاع الأعمال العام الذى يعانى من الخسارة وبدلا من أن تبحث الحكومة عن كيفية المواجهة الشاملة لهذه المشكلة نجدها تستمر فى محاولة ترضية من لا تستطيع التغلب على مقاومتهم، فعلت ذلك مع عمال الحديد والصلب وأعطتهم جزءا من مطالباتهم المالية مع وعد بتنفيذ باقى المطالب بعد شهور مما جعل العمال يهددون بالإضراب من جديد لعدم تحقيق ما وعدتهم به الحكومة، كما قررت الحكومة ما يسمى بالحافز ومقداره 200 جنيه لعمال المحلة وسائقى النقل العام، ومن الواضح أن ما تفعله الحكومة من ترضيات لن يحل المشكلة بل سيزيد من انتشار الإضرابات لأن كل العاملين الذين جميعا لا ترضيهم رواتبهم سيجدون أن الحل لزيادة الرواتب هو الإضراب . المشكلة الحقيقية التى تواجه شركات قطاع الأعمال العام ليست فى توفير الاعتمادات المالية لزيادة الأجور والحوافز، بل المشكلة الحقيقية هى تردى أحوال هذه الشركات فمثلا شركات الغزل والنسيج لا تجد الخامات المطلوبة للإنتاج وأهم هذه الخامات بالطبع هو القطن، وتتطلب مواجهة هذه المشكلة تغيير سياسات الدولة من حيث الزراعة واستيراد الأقطان وتسويق المحصول وقبل كل ذلك مواجهة الفساد الذى يتحدث عنه العمال جهارا دون أن يجدوا من يهتم بذلك. ومثال آخر على المشكلات الحقيقية التى تواجه هذا القطاع من هيئة النقل العام التى تعانى من تكدس الأتوبيسات المتعطلة دون إصلاح وتزايد العمالة، فهل يعقل أن نصيب كل أتوبيس من عدد العمال نحو 27 عاملا وهى أعلى نسبة فى العالم حيث يفترض أن يكون هناك 3 من العاملين على الأكثر لكل أتوبيس، ولكنها البطالة المقنعة التى تعانى منها كل المؤسسات الحكومية. لذلك أقول إن المشكلة ليست كما تتصورها الحكومات المتعاقبة وهى أن الأوضاع الحالية لا تسمح بزيادة الرواتب وتطالب بوقف الإضرابات لثلاثة أشهر، كما طالب بذلك رئيس الوزراء الحالى إبراهيم محلب، فحتى لو توقفت الإضرابات لهذه الشهور الثلاثة فهل ستكون هذه المهلة للبحث عن موارد مالية تكفى مطالب العمال أم أن الحكومة ستعمل على مواجهة المشكلات الحقيقية التى ُتحول هذا القطاع من قطاع خاسر إلى رابح وتجعله قادرا على توليد فرص عمل حقيقية بدلا مما يعانيه من تكدس العمالة بلا عمل حقيقى . وإذا استعرضنا التصريحات الحكومية عن كيفية مواجهة هذه الإضرابات فسنجد أنها تدور فى نفس السياسات والوعود التى تؤجل المشكلة ولا تحلها، فلم تفعل شيئا لتوفير الخامات لمصنع الحديد والصلب أو لمصانع الغزل والنسيج، بل لم تبدأ خطة للتصدى للفساد والتحقيق فى المخالفات التى يختنق بها العمال بل ولم تعط موافقة صريحة على تغيير القيادات التى يتهمها العمال بالفساد، وهو تكرار لما فعلته عند إضراب عمال الحديد والصلب وعمال المحلة من قبل وأيضا الإضراب السابق لسائقى هيئة النقل العام حيث لم تتم معالجة مشكلة أسطول الأتوبيسات المعطلة مثلا، والجديد الذى فعله ابراهيم محلب هو زيارته المحلة الكبرى ومحاولته استمالة مشاعر العمال بأقوال حماسية مثل أن مصر أمانة فى أعناقهم و» هناكلها بدقة ونبنى مصر وانتوا فى عيون مصر» فمثل هذه الأقوال الحماسية يمكنها أن تثير مشاعر الوطنية لدى العمال ولكنها تتطلب أن يلحق بهذه الأقوال خطة عمل لتنفيذ الشعارات، فإذا اقتصر الأمر على مجرد الوعود بإعادة الهيكلة فإن العمال لن يثقوا فى القيادات وسيستمر تدهور أوضاع الشركات. وتأكيدا لتكرار السياسات التى لا تصنع حلولا وجدناه فى اجتماع اللجنة الاقتصادية الوزارية برئاسة رئيس الوزراء فى 4 مارس حيث ناقشت مقترحا بإنشاء صندوق سيادى يتبع رئاسة مجلس الوزراء لتولى إدارة الأصول الإنتاجية للدولة وإدارتها وفق قواعد جديدة متطورة، ويلاحظ أن هذا المقترح ليس بجديد بل هو من أيام وزير الاستثمار الأسبق محمود محيى الدين عندما أطلق ما يسمى بصكوك الملكية وعند رفضها شعبيا تم الإعلان عن النية فى إنشاء صندوق سيادى لإدارة قطاع الأعمال العام، وبعد ثورة أطاحت برجال مبارك تعود الوزارة الجديدة لنفس المقترح، وقد يقول قائل وماذا فى ذلك إذا كان هذا هو المقترح المناسب، وهو ما يجعلنا نقول إن العبرة ليست بإنشاء هياكل جديدة تستنزف مخصصات مالية لإدارتها بل العبرة فى السياسات التى تواجه تدهور القطاع العام، وهذه السياسات المطلوبة يمكن وضعها دون إضاعة الوقت فى هياكل جديدة بل ستكون السياسات المطلوبة أكبر من قدرات هذا الجهاز الجديد، حيث المطلوب تغيير سياسات زراعية وطرق التسويق والاستيراد وغير ذلك من السياسات التى تم وضعها فى ظل نظام مبارك بهدف تصفية القطاع العام وبيعه بعد تخسيره إلى المحاسيب والأعوان . كذلك تكرر الحكومة بيع أراضى الشركات لمواجهة الديون عليها، وهو نفس ما حدث سابقا وأيضا أيام مبارك حيث تم بيع أراضى العديد من الشركات للبنوك مقابل مديونياتها، ولكن لأنه لا توجد سياسات ناجحة فلقد تراكمت الديون عليها من جديد لتأتى الحكومة الحالية لتعيد نفس السيناريو ببيع الأراضى ولتتكرر نفس القصة وهكذا يستمر مسلسل التخريب فى كل العهود، ونجد اتجاه الحكومة لذلك فى إعلان المتحدث الرسمى لرئيس مجلس الوزراء عن أن الحكومة ستتجه لبيع بعض الأراضى غير المستخدمة لشركة المحلة للغزل والنسيج لبنك الاستثمار القومى لتخفيض مديونية الشركة لدى البنك وتحفيزه على منحهم قروضا جديدة مما يدفع الشركة للعودة إلى طاقتها الإنتاجية الكبيرة قبل المديونية. فى ظل تدهور الاقتصاد المصرى يصبح إنقاذ القطاع العام هو إحدى الوسائل لوقف تدهور الاقتصاد القومى، فلماذا لايدعو رئيس الوزراء الجديد إلى حلقة نقاشية تضم الخبراء السابقين والحاليين والأكاديميين ليطرح الجميع تصوراتهم لإنقاذ القطاع العام ومراحل ذلك، فالحلول معروفة ولكن الإرادة هى الغائبة . لمزيد من مقالات د. محمد صفوت قابل