وهذا كتاب آخر عن «الكوكبية وبؤسها» (2002). مؤلفه مرموق فى مجال الاقتصاد. اسمه جوزيف ستيجلتز. ترك المجال الأكاديمى فى عام 1993 ليكون عضواً فى مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون لمساعدته فى اتخاذ القرارات السياسية. وفى 13/2/1997 عُين نائباً لرئيس البنك الدولي، وكان شعار البنك «صياغة عالم بلا فقر». وبجواره صندوق النقد الدولى وشعاره «الصندوق يمثل الثروة والقوة». عاصر، وهو فى البنك، الأزمة المالية فى بدايتها فى شرق آسيا فى عام 1997 كما عاصر الآثار المخربة التى أحدثتها الكوكبية للدول النامية. ومع ذلك كان اعتقاده أن الكوكبية فى إمكانها أن تكون قوة دافعة لإثراء الفقراء فى العالم برمته ولكن بشرط أن تعاد صياغة إدارة الكوكبية فى مجال الاتفاقات التجارية الدولية. والسؤال اذن:كيف تعاد هذه الصياغة؟ جواب ستيجلتز مزدوج وهو على النحو الآتي: الجواب الأول ورد إلى ذهنه عندما كان أستاذاً بالجامعة، إذ ارتأى ضرورة الفصل بين السياسة والايديولوجيا، بمعنى استبعاد الايديولوجيا من القرار السياسى مع الاعتماد على الشواهد الواقعية. ومع ذلك فبعد تعيينه فى البيت الأبيض لاحظ فى إحدى الجلسات المكونة من ثلاثة خبراء برئاسة كلينتون أن القرارات تستند إلى الربط بين الايديولوجيا والسياسة، وهنا الكارثة إذ تنحرف المسارات ويمتنع الحل اللازم. أما الجواب الثانى فيدور حول كيفية الانتقال من الحكم الشمولى إلى اقتصاد السوق. والرأى عنده أن هذا الانتقال ينبغى ألا يتم ب «أسلوب الصدمة» إنما بأسلوب الخطوة خطوة. وخلاصة الجوابين بالسلب وهى أن الكوكبية ليست فى صالح الفقراء ولا فى صالح الاستقرار الاقتصادي. والسؤال بعد ذلك: ما العمل؟ هل نرفض الكوكبية؟ جواب ستيجليز بالنفى لأن الرفض ليس بالأمر الميسور ولا هو بالأمر المرغوب. فقد أثرْت دول شرق آسيا من الكوكبية فى مجال التجارة والتكنولوجيا كما أنها أسهمت فى دفع المجتمع إلى النضال من أجل تأسيس الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. أما بؤسها فمردود، فى رأيه، إلى البنك الدولى وصندوق النقد الدولى لأنهما مسئولان عن وضع قواعد اللعبة لصالح الدول المتقدمة وليس لصالح الدول النامية، إذ كان من الأصوب أن تكون الدول النامية جالسة فى مقعد السائق، وهذا ما لم يحدث.فقد توهمت المؤسستان الدوليتان أن آليات السوق الحر كفيلة وحدها بتصحيح المسار الاقتصادى إذا انحرف. وسبب هذا الوهم مردود إلى ذهنية «أصولية» لا ترى إلا عاملاً واحداً مطلقاً هو العامل الاقتصادى المتمركز فى تلك الآليات دون مراعاة لأهمية المشاركة الشعبية فى تحديد مسار التنمية. والسؤال اذن: كيف يمكن ازالة بؤس الكوكبية؟ جاء جواب ستيجلز فى الفقرة الأخيرة من كتابه وهى على النحو الآتي: إذا أردنا التعامل مع الاهتمامات المشروعة لأولئك الذين عبروا عن عدم رضائهم عن الكوكبية، وإذا أردنا تفعيل الكوكبية لصالح بلايين البشر المحرومين منها، وإذا أردنا أن تكون الكوكبية بمسحة انسانية حتى تفوز بالرضا فيلزم أن نمتنع عن الصمت لأنه ليس فى امكاننا بل يجب ألا يكون فى امكاننا أن نقف مكتوفى الأيدي. والسؤال اذن: هل هذا الجواب كفيل بإزالة بؤس الكوكبية؟ جوابى بالنفى لثلاثة أسباب: السبب الأول مردود إلى أن الرؤية الاقتصادية الخالصة هى الحاكمة للمؤسستين الدوليتين وهما البنك الدولى وصندوق النقد الدولي، وأن هذه الرؤية مؤسسة على أن اقتصاد السوق هو الذى يصحح نفسه بنفسه. وفى تقديرى أن هذه الرؤية تتسق مع مصطلح «التنمية الاقتصادية» ومعه مصطلح «الانسان الاقتصادي». ولكن مع بزوغ الثقافة الأصولية فى منتصف السبعينيات من القرن الماضى تعثرت التنمية الاقتصادية فارتأت منظمة الأممالمتحدة فى عام 1882 ضرورة الاعلان عن مصطلح «التنمية الثقافية» بديلاً عن مصطلح «التنمية الاقتصادية». والسبب الثانى مردود إلى تعامل المؤسستين الدوليتين مع الكوكبية على أنها ظاهرة اقتصادية فى حين أنها، فى رأيي، ليست كذلك، إذ هى من مكونات « رباعية القرن الحادى والعشرين»: «الكونية والكوكبية والاعتماد المتبادل والابداع». ومن شأن هذه الرباعية أن تقف ضد هيمنة الدول المتقدمة. والسبب الثالث مردود إلى السبب الثانى وهو أن الرباعية من افراز الثورة العلمية والتكنولوجية. مصطلح «الجماهير» من افراز هذه الثورة ومنه نشأت مصطلحات: ثقافة جماهيرية ومجتمع جماهيرى ووسائل اتصال جماهيرية وابداع جماهيرى وانسان جماهيرى وهو الذى نطلق عليه مصطلح «رجل الشارع» الذى هو مسئول عن اصلاح مسار الكوكبية عندما يصبح على وعى بمسئوليته. وتأسيساً على ذلك كله يمكن القول بأنه من اللازم إنهاء خدمة المؤسستين الدوليتين: البنك الدولى وصندوق النقد الدولى اللذين تم تأسيسهما فى إطار الانسان الاقتصادى الذى انتهى عمره الافتراضى هو الآخر مع بزوغ الكوكبية، وبذلك يكون فى إمكاننا إزالة بؤس الكوكبية. لمزيد من مقالات مراد وهبة