فى أول مايو من هذا العام، أعلنت منظمة الصحة العالمية حالة التأهب الكوكبى فى مواجهة مرض أنفلونزا الخنازير إلى الدرجة الخامسة - على مقياس من ست درجات - وهو ما يعنى أن هذا المرض على وشك التحول إلى وباء كوكبى يهدد البشرية برمتها. وفى ذلك اليوم نفسه عقد الرئيس حسنى مبارك اجتماعاً وزارياً لرفع درجة «الوعى الجماهيرى» بأساليب الوقاية. والسؤال إذن: ■ ما هو هذا الوعى الجماهيرى؟ - نجيب: أولاً بتحديد معنى الوعى، فنقول إنه جملة خبرات الفرد فى حياته الدنيوية. وكان هذا المعنى هو السائد قبل الثورة العلمية والتكنولوجية، ولكن مع بزوغ هذه الثورة، شاع مصطلح «جماهيرى» فقيل إنتاج جماهيرى ووسائل إعلام جماهيرية ووسائل اتصال جماهيرية وثقافة جماهيرية ومجتمع جماهيرى وإنسان جماهيرى. وأنا هنا أنتقى من هذه المصطلحات مصطلحين: إنتاج جماهيرى وإنسان جماهيرى. الإنسان الجماهيرى هو الإنسان الذى يكون على وعى بأنه على الرغم من وجوده بمفرده فى غرفة مغلقة فإنه موجود مع الجماهير، وهو الأمر الذى يحدث - على وجه التخصيص - عندما يكون ذلك الإنسان مشاهداً لأى برنامج تليفزيونى. أما الإنتاج الجماهيرى فهو يعنى أن الإنتاج موجه لذلك الإنسان الجماهيرى. ومع ذلك فثمة تناقض بين الإنتاج الجماهيرى والإنسان الجماهيرى. الأول بحكم طبيعته، مؤسس على إعمال العقل فى العلم، أما الثانى فبحكم تكوينه، مؤسس على إبطال العقل من أجل إعمال الأسطورة والخرافة، وبالتالى فإن الإنسان الجماهيرى يقف بالضرورة ضد إعمال العقل فى العلم. ومعنى هذا التناقض أن الإنسان الجماهيرى، على الرغم من أنه هو الحاكم للإنتاج فإنه فى الوقت نفسه هو العائق للإنتاج. ومن أجل رفع هذا التناقض يلزم تغيير ذهنية الإنسان الجماهيرى، بحيث تصبح على وعى بضرورة إعمال العقل من غير معونة الأسطورة والخرافة. والسؤال إذن: ■ هل فى الإمكان تغيير ذهنية الإنسان الجماهيرى؟ - أظن أن تغييرها «الآن» ليس فى الإمكان، لأنها محكومة الآن بظاهرة جديدة متجسدة فى العلاقة العضوية بين الرأسمالية الطفيلية والأصولية الدينية. ولا أدل على ذلك من شيوع ظاهرة «رجل الشارع المليونير». وكان من شأن شيوع هذه الظاهرة أن بدأت الرأسمالية المستنيرة فى التآكل، الأمر الذى أفضى إلى هبوط مفاجئ فى الدورة الرأسمالية المستنيرة، وبالتالى أفضى إلى حدوث الأزمة المالية الكوكبية الراهنة. وحيث إن الرأسمالية المستنيرة تمثل «قوى الضبط» فى عالم اليوم، فانهيارها هو انهيار لهذه القوى، وبالتالى انهيار لميكانيزم المناعة. وانهيار ميكانيزم المناعة يعنى شيوع الأمراض، وشيوع الأمراض يفضى إلى مزيد من الانهيار. والسؤال إذن: ■ هل من حقى القول إن ثمة علاقة عضوية بين الأزمة المالية الكوكبية الراهنة وبزوغ مرض أنفلونزا الخنازير؟ - أظن أن الجواب بالإيجاب، ودليلى على ذلك أن مرض أنفلونزا الخنازير جاء تالياً للأزمة المالية الكوكبية. ودليلى على ذلك أيضاً أن المكسيك هى الدولة الأولى فى تجارة المخدرات، رمز الرأسمالية الطفيلية، وهى الدولة الأولى التى أصيبت بأنفلونزا الخنازير. والسؤال بعد ذلك هو على النحو الآتى: ■ إذا لم يكن تغيير ذهنية الإنسان الجماهيرى ممكناً «الآن» فهل هو ممكن «بعد الآن»؟ - أظن أن ذلك ممكن إذا أحدثنا تغييراً فى مضمون الثقافة الجماهيرية، وذلك بتحويلها من ثقافة إبطال العقل إلى ثقافة إعمال العقل، أو من ثقافة الظلمة إلى ثقافة النور، أو بالأدق إلى ثقافة التنوير التى بزغت فى القرن الثامن عشر فى أوروبا. ولكن ثمة إشكالية حضارية فى ثقافة التنوير، وهى أنها حتى الآن محصورة فى النخبة، فى حين أن التحدى الحقيقى يكمن فى مجاوزة تنوير النخبة إلى تنوير الجماهير. والكوكبية تسمح بهذه المجاوزة، إذ مع الكوكبية موت المسافة زمانياً ومكانياً، وبالتالى موت الفاصل بين الثنائيات. ومن هذه الثنائيات المطلوبة إماتتها ثنائية النخبة والجماهير. الوعى بالكوكبية إذن، شرط لازم لتحقيق التنوير الجماهيرى من أجل المحافظة على قوى الضبط، وبالتالى على ميكانيزم المناعة.