هناك بيوت حين نغادرها لا تغادرنا، تبقى فى القلب «تتأبي» على النسيان، وتعيش ماثلة فى الذاكرة، مهما طال الغياب. وأحسب أنه لا توجد آلام أقوى من أن تجد نفسك، بين ليلة وضحاها، بلا مأوي، تحملك سيارات مكشوفة بلا متاع الى المجهول، فى رحلة شتات طويلة وقاسية. 5 يونيو 1967: تاريخ لا يمكن أن أنساه، ففى هذا اليوم وضعت الهزيمة «المخزية» أمام إسرائيل، نهاية مزلزلة، مازالت آثارها قائمة فى النفس حتى الآن، لأيام طفولة خالصة فى بهجتها وصفائها صغيرا كنت لم أتجاوز السادسة، أسكن فى بيت يطل مباشرة على الشاطئ الشرقى لقناة السويس، فى ضاحية «الفردان»، شمال مدينة الإسماعيلية، حيث موقع كوبرى «الفردان» الشهير، كأول كوبرى سكة حديد معدنى متحرك فى العالم، يربط بين ضفتى قناة السويس. البيت كان صغيرا من طابق واحد، أمامه حديقة صغيرة مزروعة بورد أحمر وأصفر وأشجار وياسمين، تفوح منها رائحة جميلة، كانت تمتزج برائحة أخرى تأتى مع الهواء عندما «يعبر» ويغتسل فى مياه القناة المشبعة بملح اليود، رائحة «فريدة» ليس لها مثيل، لم تبارحنى حتى الآن، وأعود إليها دائما لاستنشق هواء طفولة، تحولت ذكرياتها إلى «وشم» فى الذاكرة. متعة لا يمكن أن تنسي، أن تعيش أيام طفولتك، قبل أن تلتحق بالمدرسة، بلا قيود أو خوف من شيء، غارقا فى اللهو، منذ أن تستيقظ فى الصباح حتى تأوى الى فراشك ليلا، ما بين اللعب على الكوبرى الضخم فى أثناء حركته، والجلوس على شاطئ القناة برماله الصفراء، نبنى بيوتا وقلاعا، ومن آن لآخر نلوح بأكفنا الصغيرة للسفن العابرة، فتطلق لنا صفاراتها تحية وسلاما، وننتظر أن تنحصر المياه عن الشاطئ، لنلتقط «المحارات» البحرية، التى خدعتها المياه وتركتها بين الصخور الصغيرة، تنتظر بشوق أن تعود الى بيتها فى أعماق البحر، ثم نذهب بصيدنا الى البيوت، لتصنع أمهاتنا منها وجبات شهية. عالم مثل الأحلام الجميلة، بألوانه الزرقاء والصفراء والخضراء والحمراء، كان مركزه بيتنا الصغير، الذى «انتزعنا» منه قسرا إثر هزيمة يونيو الثقيلة. وعندما انتهت سنوات الشتات، بعد نصر أكتوبر عام 1973، وعدنا الى مدينتى الإسماعيلية، لم نعد الى بيت الطفولة، الذى كان قد تهدم تماما شأن كل البيوت الأخري، والمسجد ومحطة الكهرباء والمدرسة، والكوبرى الذى عشت طفولتى أحلم أن أنقل بيتنا الصغير إليه، ولم يتبق سوى تلك الرائحة «الفريدة» القادمة مع الهواء الذى «يغتسل» فى مياه قناة السويس. إن التجربة «الخاصة» منحتنى يقينا ثابتا أن العلاقة مع الوطن تبدأ بعلاقة أولية فى الطفولة، مع البيت (السكن المأوي)، فأنا حين تركت بيتى قسرا فى طفولتي، عشت بإحساس أننى فقدت وطني، وهو إحساس يلازمنى حتى الآن، فالبيت الذى تهدم لم يكن مجرد مكان للإقامة داخل الوطن، وانما كان وطنا كاملا، بقى وبقيت روحى «مسكونة» به، وهى حالة أعتقد أنها سوف تستمر الى أن تحين ساعتى، أو تغيب شمس ذاكرتي، أما تلك الرائحة التى أحببتها، فهى إحدى روائح مصر الذكية التى تضفى سحرا خاصا عليها، يضاف الى عبقرية الزمان والمكان.