رأيت دموع أبي رحمة الله عليه ثلاث مرات: المرة الأولي في يوم5 يونيو1967, والثانية يوم موت الزعيم جمال عبدالناصر, والمرة الأخيرة يوم وفاة أمه. لا استطيع برغم مرور كل هذه السنوات والأحداث أن أنسي دموعه في المرة الأولي. أنت لا تستطيع أن تنسي دموع رجل مهزوم, فما بالك إذا كان هذا الرجل هو اباك, كانت دموعه عزيزة بلا صوت, تسقط من عينين زائغتين تحلق في المجهول, مازالت هذه الدموع تحتفظ بمراراتها حتي الآن عندي. كانت سيناء قطعة غالية من قلب وروح أبي. كان يعشقها. عمل فيها سنوات طويلة. كان يقضي الليالي علي شاطيء القناة الشرقي يمارس هوايته الأثيرة: صيد السمك في ضوء القمر, وعلي صوت مطربه الأول والأخير محمد عبدالوهاب. أيام قليلة وتحل الذكري الأليمة:5 يونيو1967 تاريخ لا يمكن أن ينساه المصريون, في هذا اليوم تلقت مصر أسوأ هزيمة في تاريخها الحديث وفقدت سيناء بعد أن وضعت إسرائيل أقدامها علي الشاطيء الشرقي لقناة السويس. الشاطيء الذي كنت أعتبره شاطيء أبي. أبي الذي عاش منكسرا لنخاعه في ملامحه وصوته وخطواته, حتي تحررت سيناء, وهو لم يكن في انكساره معبرا عن نفسه فقط, ولكنه كان يختزل انكسار وطن بأسره, كما أدركت فيما بعد. هناك أيام تبقي كالوشم محفورة في الذاكرة:5 يونيو1967 من هذه الأيام التي تتأبي علي النسيان. مازالت تفاصيل هذا اليوم الحزين حاضرة, كأنها وقعت بالأمس القريب, يوم قضيناه أنا وإخوتي الصغار منذ الصباح حتي منتصف الليل في خندق أمام بيتنا في ضاحية الفردان, شمال الإسماعيلية. عندما حملتنا سيارات الشتات في فجر اليوم التالي إلي المجهول, تطلعت إلي المكان: بيتنا المطل علي قناة السويس, والمدرسة التي كنت سألتحق بها في عام الحزن, والمسجد الذي كنت أصعد إلي مئذنته مع رأفت ابن عم عدلي, نؤذن في غير أوقات الصلاة, والكوبري الحديدي الضخم الذي كنت ألهو عليه والشاطيء الشرقي لقناة السويس. شاطيء أبي. نظرت إلي كل هذا وبكيت في صمت مثل أبي, ومن يومها تركت قطعة من قلبي وروحي هناك مثله أيضا! كان القدر رحيما به فرحل قبل أيامنا الحالية المنذرة بضياع سيناء مرة أخري. أراد الله أن يمضي من الحياة بلا حسرة لم يكن يحتملها في آخر العمر, وخاصة أن مصر لم تعد هي مصر التي انهزمت من قبل ثم عادت وانتصرت! في الختام.. تقول الحكمة: من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بالحرمان منه. لمزيد من مقالات محمد حسين