شكوّت في المقال السابق من أن الحكومة المؤقتة، الرئاسة ووزارتها، لم تضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب، واعتمدت أساسا أسلوب القبضة الأمنية الغليظة الذي يعلم الجميع أنه لا يكفي في حد ذاته لمنع الإرهاب بدليل استمرار الجرائم الإرهابية في ظل هذه السياسة عبر العهود السابقة وحتى الآن. بل إنني أزعم أن سلطة الحكم المؤقتة، الرئاسة المؤقتة والوزارة التي عينتها، قد فقدت زمام المبادرة في الحرب التي أعلنتها على الإرهاب. فما زالت مظاهر الإرهاب تتوالى في مصر بشكل شبه يومي. كما أن المبادرة ظلت في أيدي الإرهابيين ومن يقفون وراءهم. والدليل على ذلك أن المجرمين ينقلون ساحة الحرب التي يشنون حسب هواهم ولا تقدر أجهزة الأمن إلا أن تلحق بهم مهرولة إلى ساحة المعركة الجديدة التي يختارون، عادة بعد خسارة معركة ونجاح حادث إرهابي أثيم. ولا نسمع بعدها من مسئولي أجهزة الأمن الحاليين والسابقين إلا تبريرا لوقوع الاختراق الأخير وكيف أنه لا يوجد في العالم جهاز أمن كان يمكن أن يمنعه. ولم نر تحقيقا جادا وإجراءات إصلاح ناجعة تلي أي جريمة إرهابية، ولكن نجد تزايدا في الغلظة الأمنية من قبيل إغلاق عديد من الشوارع المحيطة بالأهداف المحتملة وزيادة عدد هذه باطراد، الأمر الذي يعني في النهاية تكديرا أشد لحياة المواطنين. بينما يتوقف الإعلان عن نجاح أجهزة الأمن عند مؤشرات مثل عدد مخالفات المرور التي جري تحصيلها والأحكام التي تم تنفيذها. هذه الذهنية التفاخرية والرضا الزائد عن النفس، والإحجام عن الإصلاح الجذري في أجهزة الأمن، هي لو يعلمون من أمضى أسلحة الإرهابيين في الحرب التي يشنون على الوطن والشعب. بالإضافة إلى ذلك، فعلامات ارتباك سلطة الحكم الراهنة في هذا المنحى كثيرة وتدعو إلى القلق الشديد. فبعض قيادات الجماعة الضالة المحركة لظاهرة الإرهاب الإجرامي تمكنت من الهروب إلى حيث يقودون ويمولون هذا النشاط التخريبي في أمان وبحبوحة ولا يمكن تفسير هروبهم إلا بتقصير من أجهزة الأمن. ومن وقع في قبضة الأمن من قيادات هذه الجماعات يواجه محاكمات لا يبدو أنها ستفضى إلى أحكام رادعة سريعا. وفي النهاية، لا يقع تحت طائلة البطش الأمني إلا الهفايا من أتباع تلك الجماعات الضالة، من المستضعفين المضللين والمغرر بهم. والحكومة أعلنت جماعة الإخوان الضالين إرهابية من دون نشر دليل مفحم على ضلوعها في الإرهاب، ما ييسر لقيادات الجماعة الضالة ومناصريها التبجح بأن لا علاقة لهم بجرائم الإرهاب وأنهم ليسوا إلا معارضين سلميين. ولم تعلن الحكومة ما يسمى جماعة أنصار بيت المقدس تنظيما إرهابيا رغم أن تلك الجماعة أعلنت مسئوليتها عن جميع الجرائم الإرهابية الخسيسة. ولم تقدم الحكومة أو القضاء دليلا مقنعا على ارتباط هذه الجماعة الإجرامية بتنظيم الإخوان الضالين، ولم تنجح أجهزة الأمن، المدنية والعسكرية في القضاء على تلك الجماعة الخفية. وسمعنا وزير الدفاع يتنصل من مسئولية الجيش في مكافحة الإرهاب، ملقيا العبء على وزارة الداخلية. وهو أمر-وإن كان صحيحا من حيث المبدأ- فهو يثير الاستغراب, حيث شوهدت مدرعات الجيش فى وقت مضى تشارك مع الشرطة في مواجهة مظاهرات، وتعددت مظاهر تضافر القيادات الأعلى للجيش والشرطة في مواجهة الإرهاب طوال هذه المرحلة الانتقالية الثانية. ومع صحة الموقف الأخير لوزير الدفاع من حيث المبدأ فهو، على الأقل، لا يعفي أجهزة الأمن العسكرية الواقعة تحت إمرته من الوفاء بدورها الوطني في التحقيق والتوثيق وجمع المعلومات وتقديم الأدلة الكافية لإدانة المتورطين في جرائم الإرهاب، وهو ما لم يحدث منذ قيام الثورة وتسبب في إفلات المسئولين عن إيقاع الشهداء والمصابين من الإفلات من العقاب في جميع العصور. لكن الفشل كما يقال لا أم له بينما يتسابق الجميع إلى تبني أي نجاح مشهود. أما وزارة الداخلية فينطق مسئولوها دائما بأن ليس في الإمكان أحسن منها وأنها براء من كل ما تتهم به من تجاوزات. ولم يصدر القضاء حتى الآن أحكاما ناجزة على قيادات الجماعة الضالة بناء على أدلة دامغة تثبت تورطهم في قيادة وتمويل الإرهاب. وتتنحى بعض المحاكم عن نظر القضايا المتهم فيها هذه القيادات، ويتبجح المدافعون عنهم بأن ادلة إثبات التهم واهية او ملفقة ولا تكفي للإدانة على اي حال. وليس الإخفاق غريبا على تلك السلطة المؤقتة، ولكن ذلك الفشل الجليّ في مكافحة الإرهاب يعود إلى تبني السلطة المؤقتة استراتيجية تقوم على بعد وحيد هو القبضة الأمنية الغليظة وكأن السلطة في مواجهة الإرهاب جسد بأذرع ضخمة وغليظة ومخ صغير وضامر. من نافلة القول إن القبضة الأمنية الغليظة وحدها، لن تفلح في مقاومة الإرهاب التكفيري الضال، ومن يمدونه بالذخيرة المالية والعقيدة المتعصبة والفاسدة. وأن الاعتماد على هذه القبضة وحدها يفضي إلى إيجاد مناخ وذهنية لدى أجهزة الأمن وقطاعات أخرى في المجتمع، للعصف بحقوق المستضعفين من المواطنين وبحرياتهم بحجة المعركة مع الإرهاب التي لا يجب أن يعلو عليها صوت، بينما هم لا يحققون فيها النجاح المأمول بل يفقد الوطن أبناء تعهدوا بالسهر على أمنه بتوالى سقوط الشهداء من رجال الأمن على أيدي الإرهابيين الأخساء. ولنضرب مثالين على قلة كفاية المواجهة الأمنية الغليظة وحدها. يقيني أنه مادام الانغماس في جرائم إرهابية يمثل عملا مُكسبا بسخاء في بلد يستشري فيه الفقر وتلتهم فيه البطالة شبابه ويغيب عنهم أي أمل في حل كريم تقوم عليه الدولة، بينما قوى إقليمية ودولية تدعم جماعات ضالة تستخدم هؤلاء الشباب المفقرين والمطحونين، في حين فشلت الحكومة المؤقتة في تجفيف منابع ذلك التمويل، فلن تنجح المواجهة الأمنية الغليظة وحدها، ناهيك عن مضارها الأخرى. قطعا ليس المطلوب القضاء المبرم على الفقر الآن ولكن لابد من أن يجد الشباب الضائع القابل للتوظيف في هذه الأعمال الضالة فرجة من أمل وكثيرا من الرعاية من الدولة، ولو كأمل يلوح في المستقبل القريب. ويتعلق المثل الثاني بفراغ العقول والأفئدة إضافة إلى فراغ الجيوب بين أجيال الشبيبة. فقد نجحت الجماعات الضالة في غواية الشباب بالعاطفة الدينية التلقائية والترويج لفهم مغلوط للإسلام يجعل من الجريمة الإرهابية جهادا في سبيل الله وسبيلا للجنة. بينما فشلت الدولة بجميع أجهزتها، خاصة الإعلام والأزهر، في مواجهة هذا التضليل والتغرير.، بل إن معاهد الأزهر بمختلف مستوياته صارت هي البيئة الأخصب لنشر ذلك الفكر الضال وتصنيع انصار تلك الجماعات الضالة. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى