بعد ماراثون المشاورات المعتادة فى تشكيل الحكومات، وصلت مصر إلى توليفة جديدة لأحدث وزارة هى السادسة منذ ثورة 25 يناير حيث عمر الحكومة الواحدة لم يتجاوز ستة شهور فى المتوسط العام وهو أمر لم تعتده مصر فى الحقب التى أعقبت ثورة 1952 وإن كان الإخفاق فى تحقيق أهداف الثورة التى خرج من أجلها الملايين «عيش حرية عدالة اجتماعية» هو السبب الكامن فى الفشل المتعاقب لتلك الحكومات إلا أن المصريين يحدوهم الأمل، فى كل مرة بتغيير يلبى طموحاتهم فى انجاز عدالة اجتماعية تظلل الجميع. البدايات الجديدة تحتاج إلى رؤية تصحح أخطاء المراحل السابقة وأول تلك الأخطاء هو التغلب على مفهوم «حكومة انتقالية» الذى هزم حكومة الدكتور حازم الببلاوى قبل أن تشرع فى عملها قبل شهور.. البداية الخاطئة لحكومة جاءت بعد ثورة تصحيح مسار ثورة يناير فى 30 يونيو الماضى لم تلتفت إلى حقيقة أن الغالبية التى خرجت ضد نظام جماعة الإخوان الإرهابية ورئيسها المعزول محمد مرسى لم تكن ترتضى سوى حلول ناجعة وحاسمة للعديد من المشكلات الملحة ولم تنتظر تبريرات الفشل أو التقاعس التى سرت فى خطابات الوزراء وفى تبريراتهم اليومية عن صعوبة المرحلة والميراث الثقيل, ولو نعود إلى الأيام الأولى للحكومة السابقة ونتذكر التقارير التى أكدت امتناع غالبية من الوزراء عن توقيع القرارات خشية تعرضهم للمساءلة، كما لو كان وزراء الحكومة فى نزهة أو عطلة عن العمل. ما يبعث على الأمل اليوم، أن حكومة المهندس إبراهيم محلب رئيس الوزراء الجديد تبدأ مشوارها بخطاب صريح عن ضرورة اقتحام مشكلات متفاقمة يزيدها الارتباك الحكومى ضراوة ويصورها لعامة الشعب عصية على الحل وهو أخطر ما يهدد الروح الوطنية التى تريد لهذا البلد أن يخرج من محن عدة فى مقدمتها بناء مجتمع جديد يقوم على قيم الحداثة والتقدم والعلم ويكسر حلقة الجهل والتخلف والرجعية التى أطلت برأسها وكادت تفتك بمقدرات الأمة لولا وقفة الشعب فى يوم مجيد فى منتصف العام الماضى. ................................... بداية القول، وقبل الحديث عن حكومة إبراهيم محلب، هناك قدر من الإنصاف يجب أن نشير إليه عندما نتحدث عن حكومة الببلاوى، فالرجل يحسب له قبول المهمة فى توقيت صعب ويحسب له قرارات مهمة خاصة قرار التصدى لبؤرة رابعة العدوية وميدان النهضة فى منتصف أغسطس الماضى فى ظل تصعيد من الجماعات الإرهابية كان يمكن أن يفاقم التطورات إلى مستوى احتراب أهلى وفوضى عارمة لم يكن ممكنا تدارك نتائجه بسهولة، حتى لو تناسى البعض عن عمد خطورة تلك الأيام التى مرت ثقيلة وخلفت وراءها موجات إرهابية متتالية تتحالف فيها تيارات العنف فى الداخل والخارج ضد مقدرات الدولة المصرية وبدعم من دول فى الإقليم تريد فرض إرادتها وتحقيق أهدافها بلا هوادة. ويجب أن نتوقف هنا لنتذكر أن البعض هرب من تحمل المسئولية عندما تمت مفاتحته وقتها فى أمر تكليفه بتشكيل الحكومة, وعاد لكى يجرى اتصالات بمسئولين فى الدولة عارضا خدماته بعد وقت من فض بؤرتى رابعة والنهضة، والالتفاف الشعبى حول الدولة ومؤسساتها ضد الإرهاب وجماعته، البعض الآخر فر من مواقع المسئولية خشية تحمل مسئولية تنفيذ قرار شارك فى صنعه. فى المقابل، غابت عن حازم الببلاوى ووزرائه الرؤية الواضحة لكيفية تحقيق أهداف ثورة يناير، فلم يحسم قراره بشأن الحديد الأدنى والأقصى للأجور على سبيل المثال - إلا بعد تدخل المشير عبد الفتاح السيسى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، كما أن الحكومة غابت عن طرح تصورات بشأن الاعتصامات والإضرابات الفئوية التى عادت من جديد ولم تتحدث بشكل كاف لممثلى العمال والموظفين لتهدئة مخاوفهم، فعادت التظاهرات من جديد ووصلت إلى مقر الحكومة التى فضلت اللجوء لتقديم حوافز وأرباح لشركات خاسرة بدلا من مواجهة العاملين بالواقع الصعب لمؤسساتهم المتعثرة، وحثهم على تحمل قدر من فاتورة الإصلاح والتطوير وصولا إلى استعادة الطاقات الإنتاجية المعطلة. كما أن حكومة الببلاوى ارتكنت إلى المساعدات العربية من دول الخليج التى كان يمكن أن تكون عونا فى عملية إعادة هيكلة وحدات إنتاجية عملاقة إلا أن الحكومة السابقة أخفقت فى استثمار الفرصة وفشلت فى إعادة شركات بيعت بأثمان زهيدة وبشكل بخس فى سنوات الفساد فى عهد الرئيس الأسبق حسنى مبارك. وانتقص من أداء الحكومة السابقة أيضا طريقة التعامل مع مشكلة »سد النهضة« وغياب رؤية أكثر وضوحا تعوض كارثة ما جرى فى عهد محمد مرسى باستثناء تحركات واعية من وزارة الخارجية ووزيرها نبيل فهمي- وإن كان قطاع من الإعلام يتحمل قدرا من المسئولية فى التعامل الساذج والسطحى مع مشكلة خطيرة! ................................... المسألة الأخطر فيما أصاب الحكومة من انفصام عن واقع المشكلات الملحة أن هناك انتكاسة قد حدثت فى توجه رئيس الحكومة السابق ويكشف «الأهرام» اليوم عن واحد من القرارات الدالة على حدوث خلل سَّرع من رحيل الحكومة.. ففى يوم الحادى والعشرين من يناير الماضى قام رئيس الوزراء بإصدار القرار رقم 69 لعام 2014 بشأن تعيين ممثلين لمصر فى عدد من المؤسسات المالية الدولية والإقليمية وذلك على النحو التالي: الدكتور زياد بهاء الدين نائب رئيس مجلس مجلس الوزراء ووزير التعاون الدولى (المستقيل) محافظا لمصر لدى البنك الدولى والسيد أسامة صالح وزير الاستثمار محافظا مناوبا. السيد هشام رامز محافظ البنك المركزى محافظا لمصر لدى صندوق النقد الدولى والدكتور أحمد جلال وزير المالية محافظا مناوبا. الدكتور أحمد جلال وزير المالية محافظا لمصر فى مجلس محافظى المصرف العربى للتنمية الاقتصادية فى افريقيا والدكتور زياد بهاء الدين محافظا مناوبا. الدكتور زياد بهاء الدين محافظا لدى البنك الأوروبى للتعمير والتنمية والسيد منير فخرى عبدالنور وزير التجارة والصناعة محافظا مناوبا. السيد هشام رامز محافظا لمصر لدى بنك التنمية الإفريقى وزياد بهاء الدين محافظا مناوبا. الدكتور زياد بهاء الدين محافظا لمصر فى مجلس محافظى الصندوق العربى للإنماء الاقتصادى والاجتماعى وأسامة صالح محافظا مناوبا. الدكتور أحمد جلال محافظا لمصر فى مجلس محافظى البنك الإسلامى للتنمية والدكتور زياد بهاء الدين محافظا مناوبا. السيد هشام رامز محافظا لمصر فى مجلس محافظى صندوق النقد العربى والدكتور أحمد جلال محافظا مناوبا. الدكتور أيمن فريد أبو حديد وزير الزراعة واستصلاح الأراضى محافظا لمصر فى مجلس محافظى الصندوق الدولى للتنمية الزراعية والسفير عمرو حلمى سفير مصر فى روما محافظا مناوبا. السيد منير فخرى عبدالنور وزير التجارة والصناعة محافظا لمصر فى مجلس محافظى بنك شرق وجنوب إفريقيا للتجارة والتنمية وأسامة صالح محافظا مناوبا. الدكتور أيمن فريد أبو حديد محافظا لمصر فى مجلس محافظى الهيئة العربية للاستثمار والإنماء الزراعي, ورئيس مجلس إدارة بنك التنمية والائتمان الزراعى محافظا مناوبا. ................................... قراءة أولية فى هذا القرار المنشور بملحق الجريدة الرسمية العدد 3 مكرر (ج) فى 21 يناير سنة 2014 تشير إلى أن اقتصار شغل معظم هذه المواقع (22 منصبا) على عدد محدد من الشخصيات معروفة عنها توجهاتها الاقتصادية المتوائمة مع سياسات مؤسسات مالية دولية معروف عنها أيضا نتائج وصفاتها الكارثية على اقتصادات الدول النامية, وكذلك تداعيات روشتاتها العلاجية التى تبنتها مجموعات المصالح وأمانة سياسات الحزب الوطنى الراحل برئاسة نجل الرئيس الأسبق، الأمر الذى يثير التساؤلات حول الدائرة الأوسع من النافذين لدى المؤسسات الدولية بكل مصالحهم وتوجهاتهم التى رفضها غالبية المصريين فى خروجهم فى ثورتى يناير ويونيو وهو ما يفسر أيضا إهمال ملف العدالة الاجتماعية وعدم الاكتراث برجل الشارع العادى إلى حد كبير- حتى ولو كانت الخطب والكلمات تقول عكس ذلك وهو ما انحرف بالسياسات إلى منحى التعبير عن جماعات مصالح أكثر من تبنى سياسة واضحة! المسألة هنا هى أن القرار جاء فى وقت نحن فيه بصدد انتخابات رئاسية ونظام سياسى جديد يريد البعض من أصحاب المصالح أن يبعث إليه برسائل تقول له: «نحن هنا.. ومصالحنا هنا وهناك»... وتهدف إلى فرملة إيقاعه نحو تحقيق العدالة الاجتماعية. ................................... خلاصة القول فى أمر الحكومة السابقة أن الدكتور الببلاوى جاء بعد ثورة كبيرة كان من المفترض أن تعمل حكومته على التأسيس لنظام جديد- وليس المضى على خطى تسيير أعمال بالطريقة القديمة- إلا أنه لم يقدم المرجو منه لوضع لبنات النظام المنشود بشكل يمضى بالتوازى مع إتمام خطوات «خريطة المستقبل» السياسية التى تقترب من مرحلة حاسمة بانتخاب رئيس جديد خلال شهور قليلة. ................................... فى استقبال الحكومة الجديدة، وفى ضوء ما سبق، تكون العبرة بالتقدم فى ملفات أساسية نالها إهمال وأصابها الارتباك والأخطاء الفادحة فى السنوات الثلاث الماضية، وفى مقدمتها الأمن والعدالة الاجتماعية وتحديث البنية التحتية التى أصابها الكثير من الضرر والعطب نتيجة السياسات المضطربة للحكومات المتعاقبة.. فقد حانت لحظة المواجهة برؤى واضحة وصريحة ومصارحة للشعب بأن هناك مشوارا طويلا نحتاج إلى أن نقطعه معاً والبداية بالقطع ستكون بمهمة تاريخية وهى تهيئة المناخ لإجراء الانتخابات الرئاسية المقبلة التى ستكون نقطة فارقة فى بنيان حديث للدولة المصرية.. وحتى لا تقع حكومة محلب فى دائرة الفشل مثل سابقتها، فعليها أن تعى أن رئيس الحكومة يدير جهاز السلطة التنفيذية ويضع الرؤى المثلى للتعامل مع الوضع الشائك وأن دروس الحكومات السابقة فى الانفصال عن تشابكات الواقع هى التى أوصلتها جميعا إلى الفشل وأوصلت الشعب إلى الخروج ضد حكامه مرتين فى أقل من ثلاث سنوات. وفى طريقة تعاطى المهندس إبراهيم محلب مع طريقه تشكيل الحكومة وفى طريقة تعامل الإعلام معه هناك ملحوظتان لافتتان للنظر فى الأيام الأخيرة: الأولي: تتعلق بالمكان الذى أدار منه جزءا من مشاورات تشكيل الحكومة حيث توجه الرجل إلى مكتبه السابق فى شركة «المقاولون العرب» وهى سابقة فى تاريخ تشكيل الحكومات المصرية وتجافى التقاليد المرعية فى استقبال أعضاء الحكومة وتضع رئيس الحكومة فى مجال الانتقادات والريبة فى شأن من سيحيطون به فى الفترة المقبلة، ومن سيكون له تأثير فى قرارات مصيرية فى حكومته، وهى أمور يجب أن يكون إبراهيم محلب واضحا بشأنها من اليوم الأول حتى لا تثير غبارا غير مطلوب ولا يحتمله الوضع. والثانية: تتصل بخروج بعض الأصوات لتصف رئيس الحكومة ب »المعلم محلب« فى إشارة إلى أحد مهندسى فترة الانفتاح المهندس الراحل عثمان أحمد عثمان »مؤسس المقاولون العرب« وهو صاحب اللقب الأصلي، وكل ما يحمله اللقب - مع كل التقدير للتاريخ المهنى للرجل- يستدعى وقائع سلبية من التاريخ القريب بعد الانتصار العظيم فى حرب أكتوبر المجيدة 1973 - خاصة ما ارتبط بظهور جماعات المصالح تحت لافتات «التوكيلات» والانفتاح الاستهلاكي.. وماتلا ذلك من تداعيات وآثار فى عهدى الرئيس الراحل أنور السادات ثم مبارك ونجله - فجرت ثورة 25 يناير ودفعت مع أخطاء أخرى بعد الثورة إلى وضع البلاد فى قبضة جماعات الإرهاب. ................................... أكثر ما يتهدد أى حكومة قادمة فى مصر أن تتجدد فى كل مرة قصة حكم البلاد بناء على قناعات شخصية ونمو علاقات المصالح وتشابكها حول رئيس الحكومة حتى نصل إلى النقطة نفسها التى تصل إليها كل مرة والتى تولد إحباطا أو انفجارا شعبياً.. وفى ضوء تجارب الماضى القريب يكون رئيس الحكومة الجديد مطالبا من اليوم الأول أن يتحسس طريقه جيدا وأن يصحح مساره أولا بأول وصولا إلى نقطة يستطيع فيها أن يكون طرفا فاعلا ومساهما حقيقيا فى القضية الأولى التى ينشد المواطن المصرى سبيلا إلى حلها وهى العدالة الاجتماعية.. المدخل الأساسى ليس فقط لبناء طبقى حقيقى بل من أجل بناء الدولة الوطنية الحديثة والقوية. لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام