«أفخر أن بلادى خرجت من محناتها محتفظة بشخصيتها وطبيعتها السمحة، مقبلة دائماَََََ على صناعتها الواحدة: صناعة الحضارة، برغم كل شيء وتحت حكم كل إنسان وضد كل إنسان». هذه الرؤية «المقطرة» التى تختزل تاريخ مصر والمصريين الطويل، هى خلاصة رحلة بعرض وطول التاريخ قام بها الدكتور حسين فوزى (1900 1988) البيولوجى وعالم البحار والكاتب والمفكر، وصاحب الاهتمامات التاريخية والأدبية والموسيقية، الذى عاش عمره يدعو الى التفكير العلمى والوطنية المصرية، كأحد رواد النهضة والتنوير فى مصر فى القرن العشرين. ما بين اختياره ليكون المصرى الوحيد ضمن الرحلة العلمية فى بعثة »جون مري« فى السفينة «مباحث» (1931)، التى طافت المحيط الهندي، وبين رحلته الأخري، لم يخلع الدكتور «حسين فوزي» قناع «السندباد» الأسطوري، الذى وظفه بحرفية عالية، فى التعبير عن شغفه بالعلم والبحر والرحلات، فجاء عمله «العمدة» أو رحلته الكبرى «سندباد مصرى جولات فى رحاب التاريخ»، الذى استعرض فيه تاريخ مصر من خلال بطولة الشعب المصرى وصراعه على مدى الدهور، واحتفاظه بالقومية المصرية برغم كل ما استعمره، جاء كعمل عظيم يؤرخ لحياة المصريين. إن الرحلات الكبرى تأخذ أهميتها فى اكتشافها للحقائق والأسرار، وهذا ما ينطبق تماما على رحلة الدكتور حسين فوزى فى الزمان المصري، إن كتاب «سندباد مصري» ليس فقط عملا تاريخيا، مدهشا فى منهجه، ومثيرا فى لغته، ولكنه رحلة كبرى عميقة، لرحالة عاشق لوطنه، تكتسب الرحلة عبقريتها وأهميتها، من كشفها عن حقيقة هذا الشعب الذى يقيم على هذه الأرض منذ آلاف السنين، وواجه أخطارا ومحن بقاء، لم يواجهها شعب آخر، وكان ومازال «مطمعا» للقوى العالمية. «سندباد مصري» كتاب على هامش التاريخ يصور الحياة المصرية ولحمة هذا الشعب. وقد جاء الكتاب فى أكثر من موضع حسب قول الدكتور حسين فوزى مثل مرثية طويلة لما عاناه الشعب المصرى على مدى الأزمان، وهو ما يؤكد قدرة هذا الشعب على المقاومة والصراع والبقاء، بالإضافة الى ما أداه من خدمات للحضارة الإنسانية. إن أروع ما فى رحلة «السندباد» الكبرى فى الزمن المصري، هى «اكتشافاتها، التى تفسر السر المصرى الحافظ لهذا الوطن، والضامن لوجوده أمام أى أخطار أو تهديدات أو محن، أهمها، ما يتعلق بالحقيقة حول استقلال واستعمار مصر، حيث أجرى «السندباد» حسابه لسنوات الاستقلال المصرى بالنسبة لسنوات الاستعمار، ابتداء من عام 3200 قبل الميلاد، بعد توحيد الوجهين البحرى والقبلي، لتكون الدولة المصرية بحدودها الراهنة من رفح الى حلفا، ويخلص الى أن ما يستحق الفخر بأن الأمة المصرية تحيا منذ خمسة آلاف عام، استقلت فيها 3500 عام، أى ما يعادل سبعين فى المائة من تاريخها، أمة ألفية، أطول الأمم تاريخا، عاشت أكثر من ثلثى تاريخها مستقلة، وهى تنتقل بين حضارات العالم القديم. إن مصر كما يقول الدكتور حسين فوزى لم تفن فى غزاتها، بل إن غزاتها هم الذين يفنون فيها، إن لم يكن بالطريقة التى ابتلعت بها الصحراء جيش «قمبيز» كما قيل فبوسيلة أخرى أفعل سحرا وأقوى أثرا: الغزاة يفنون فى مصر الحياة، يتناسلون ويحكمون أجيالا لينتهوا مجازا الى ما انتهى إليه جيش «قمبيز» فى الأسطورة، هم أيضا يذوبون لا فى رمال الصحراء، لكن فى بوتقة الشخصية المصرية. إن خلاصة رحلة «السندباد» الكبرى تكشف جوهر الوجود المصري، الذى يتجلى فى هذه الوحدة، الكامنة خلف كل تلك الحضارات المتعاقبة فى السراء والبأساء، هذه الوحدة القوية التى جعلت »السندباد« يشعر بأنه ابن أعرق الشعوب. ينهى «السندباد» رحلته الكبرى بتوجيه نداء أخير للشعب المصري، اقتبسه من كتاب الفراعنة «الخروج للنهار»، يقول النداء: «انهض إنك لست بميت»، وهو نداء صالح فى كل الأوقات، خاصة هذه الأيام، بمحنتها وأخطارها وتحدياتها الكبيرة.