ينشر هذا المقال, قبل إنعقاد أول مجلس شعب بعد الثورة بقيادة الإخوان المسلمين; وقبل أهم خطاب يوجهه المشير طنطاوي الي الأمة; وقبل إحتشاد ملايين المصريين بميدان التحرير في ذكري الثورة وفي طليعتهم شبابها; إحتفالا بما أنجزته أو دعوة لإستكمال مهامها وإنجازا لوعدها الملهم. وأحسب أنه لا بد من وقفة نقدية موضوعية تنطلق من التفكير الاستراتيجي في المصلحة الوطنية المصرية, بما يعنيه هذا التفكير من رؤية واضحة للوسائل والأهداف. وحتي أوضح ما أعنيه, قد أذكر أنه علي القادة أن يكونوا علي مثال دليل القافلة في الصحراء. إنه مصاب بدائين حميدين في سياق ما أعنيه; هما بعد النظر وقصر النظر!! فهو يري البعيد أو الهدف بوضوح, فيصل ومعه من يقودهم بأقل تكلفة وجهد ووقت الي الواحة البعيدة, التي لا تغيب عن عينيه; حتي لا يهلك ومعه من يقودهم عطشا في تيه الصحراء قبل الوصول!! لكنه يري القريب أو السبل بذات الوضوح, فلا يهلك ومن يقودهم بالعدو وراء السراب أو السقوط في خور لا قرار له أو الدخول في حقل ألغام خلفته الحروب والصراعات!! واستلهاما لهذا المثال أتصور أن ثمة وقفات موضوعية واجبة. وأتصور أولا, أن الوقفة النقدية الموضوعية مع الإخوان المسلمين, وقد نالوا ثقة الأغلبية في إنتخابات مجلس الشعب, ويتحملون دورا أكبر في إدارة الانتقال, تقتضي أن ندعو قادتهم الي إعلان إنحيازهم بإستقامة الي إقامة' دولة المواطنة', بما تعنيه من دستور توافقي, يحترم جميع حقوق المواطنة والإنسان, ويحمي الحريات العامة والشخصية, ويضمن الفصل والتوازن بين السلطات واستقلال القضاء, ويؤكد' مباديء' الشريعة الاسلامية باعتبارها المصدر الرئيسي للتشريع مع حق غير المسلمين في الإحتكام الي شرائعهم في قضايا الأحوال الشخصية. وعلي الإخوان أن يساندوا رئيسا مدنيا توافقيا, وإدراك أن السلطة مسئولية وأمانة جسيمة, وعدم الإنزلاق الي خطيئة الهيمنة لأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. وعلي الإخوان المسلمين تجنب شراك خداعية أهمها: تصور أن الثورة قد انتهت بانتخابهم, وأن مرجعية الفقهاء يمكن أن تعلو علي مرجعية الدستور التوافقي وفوق السلطات الدستورية المنتخبة وإرادة الأمة المصرية ومباديء دولة المواطنة. وعليهم إدراك أن إنتخابهم كان تفويضا من المصريين بحكم وطن العيش المشترك لمسلمي مصر ومسيحييها ولم يكن تفويضا بإحياء الخلافة, وأن سلطة المرشد ليست أعلي من سلطة رئيس الدولة. وأتصور أنه علي الإخوان المسلمين أن يتخذوا من حزب العدالة والتنمية التركي أسوة حسنة; وخاصة بتصنيع مصر, إن أرادوا النجاح في تحقيق ما تصبو اليه الأمة المصرية وتستحقه وتستطيعه من تصفية للفقر وتحقيق للتقدم. وأري ثانيا, أن الوقفة النقدية الموضوعية مع شباب الثورة, الذين كانوا ولا يزالون طليعتها الجسورة وحماة استكمالها, تقتضي أن ندعو قياداتهم الي عدم التهوين بما حققته الثورة من إنجازات بخلع ومحاكمة مبارك ورموز حكمه وإسقاط التوريث وفضح الفساد وحرية الانتخابات والمشاركة السياسية والحرية النقابية ومكاسب مطلبية وانتزاع لحقوق التظاهر والإعتصام والإضراب. وعليهم استعادة روح وصورة ميدان التحرير والارتقاء بوعي المنضمين حديثا الي الميدان من منكوبي النظام السابق, وتجاوز إخفاق إئتلافاتهم في الإرتقاء الي أحزاب سياسية جماهيرية تترجم شعاراتهم الي برامج عملية وواقعية وتوافقية, وتطرح جدولا زمنيا واقعيا ومنطقيا يعجل إستكمال نقل السلطة بإنتخاب الرئيس ووضع الدستور. وبناء صورة دعاة البناء, الذين ينبذون أي دعوات للعنف من قبل أطراف مندسة تدعي الانتماء للثورة, وإدراك أن تحقيق أهداف الثورة وبناء نظام جديد هو عملية مجتمعية وممتدة. وعليهم المشاركة في بلورة رؤية وطنية شاملة وخريطة طريق واضحة نحو تغيير جذري وشامل; بغيره لن تتحقق تطلعات الأمة المصرية ولن تكتمل الثورة ويتحقق وعدها. وعلي شباب الثورة تجنب شراك خداعية أهمها: الإنسياق وراء الدعوات الفوضوية الي العنف وإسقاط الجيش والدولة, والتخلي عن سلمية الثورة, والعزلة عن الجماهير وفقدان الحس بنبضها, والإنزلاق للإساءة الي الجيش, والإستغراق في أسر نزعات الانتقام من خطايا الحكم في حقهم. وأعتقد ثالثا, أن الوقفة النقدية الموضوعية مع المجلس العسكري الأعلي, تقتضي أن ندعوه لأن يتحرر نهائيا من وهم أن الثورة قد انتهت بمجرد تخلي مبارك عن الحكم وإسقاط مخطط التوريث, وأن يستوعب أن الثورة, التي أعلن يوم ذكراها عيدا قوميا, تعني إستحالة حكم الأمة وإدارة أمورها بذات الأساليب التي فجرتها وستجدد موجاتها. وعلي المجلس أن يستوعب أنه لا مفر من استكمال الثورة بإقامة نظام جديد; يحقق لمصر والمصريين تطلعاتهم المشروعة الي الحرية والتحرر والعدالة والكرامة والمساواة والتقدم والريادة, وأن يقدم نقدا ذاتيا موضوعيا لحكمه البلاد علي مدي سنة; بدأها بموقف ملهم وأدارها بشكل محبط. وعلي المجلس العسكري أن يتجنب شراك خداعية أهمها: التباطؤ في إتخاذ إجراءات تعيد بناء الثقة فيه; وخاصة بإعلان خضوع القوات المسلحة للسلطات الدستورية المنتخبة, والتزامه بحماية المحكمة الدستورية للشرعية الدستورية, وعزمه علي نقل السلطة الي البرلمان والرئيس المنتخبين وفقا للاستفتاء, وبغير إنتقاص, ودون ربط بالانتهاء من وضع الدستور الجديد, والاستمرار في تشويه الثوار, الذي لم يثمر سوي تشويه صورة مصر; بخسائرها الفادحة الإقتصادية وغير الإقتصادية في الخارج والداخل, واعتقال النشطاء, والحملات علي منظمات المجتمع المدني وحرية الصحافة, ومحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية, والزج بقوات الجيش في مواجهة المظاهرات والاعتصامات السياسية وهو ما يخرج عن مهمتها وعقيدتها وتأهيلها. ويتحمل المجلس العسكري حتي تسليمه السلطة مسئولية تطهير أجهزة الدولة من رؤوس' الطرف الثالث' المتآمر علي الثورة, وبناء مواقف واتخاذ إجراءات تتراجع عن الاتهامات المنفلتة والإنتقائية بخدمة أجندات أجنبية, والسلبية في مواجهة هدر هيبة الدولة وفوضي قطع الطرق كما جري في الضبعة وقنا ودمياط, وتؤكد احترام الكرامة الإنسانية والوطنية والعدالة الناجزة ومحاكمة الفاسدين وحرمة الدماء والأعراض والحرية المسئولة للصحافة, وتتصدي للانفلات والفراغ الأمني وخطاب التحريض الديني واستخدام العنف المفرط وتخريب الثورة المضادة وتهريب الأموال والتدخل الأجنبي. وفي ذكري ثورة25 يناير, أختم بأن أؤكد حتمية تحقيق العدالة الناجزة بمحاكمة جميع المسئولين عن قتل شهداء الثورة وغيرها من الجرائم التي ارتكبت ضد الأمة وشباب الثورة, قبل وبعد الثورة. وبغير إدعاء أنني ثوري أو شاركت في الثورة, أعلن باستقامة أنني قد إنحزت اليها ولا أزال, إذ رأيت وأري في الثورة تعبيرا عن إستعادة روح الأمة ووعيها بذاتها, وبرهانا جديدا علي ما تكشف لي حين أعدت زيارة تاريخ مصر والمصريين: إن مصر كلما بدت وكأنها لن تقوم لها قائمة.. تنهض جبارة.. تبهر الصديق قبل العدو!! وأثق أن تحقيق وعد الثورة, بتضافر الشرعية الثورية والشرعية الدستورية, من شأنه إزاحة عقبات كئود تراكمت أمام إعادة بناء الدولة والاقتصاد والمجتمع والثقافة في مصر علي صورة التقدم الشامل في دولة المواطنة, وهو ما تستحقه مصر وتستطيعه, دون ريب. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم