كان استخدام القسوة المفرطة لإنهاء إعتصام مصابي ثورة25 يناير, واستمرار نهج قمع المتظاهرين وحرية التعبير وهدر الكرامة, هو السبب المباشر لإشتعال إنتفاضة نوفمبر. لكن السبب الأعمق للانتفاضة يكمن في عدم استيعاب أن الثورة- أي ثورة- تعني أن الشعب لن يقبل أن يحكم وأن تدار أموره بأساليب النظام, التي أخفقت فقادت الي الثورة, وأن السلطة لا تستطيع أن تحكم وتدير بوسائل النظام, الذي سقطت شرعيته بالثورة. وبسبب هذا الإنكار, كادت ثورة يناير تنزلق الي سكة الندامة بوأدها, فكانت انتفاضة نوفمبر الواعدة بإنقاذها وإعادتها الي سكة السلامة. وحتي يتحقق وعد الثورة, لابد من نهج جديد لإدارة عملية الإنتقال يتجاوز إخفاقاتها. وقد تولي المجلس الأعلي للقوات المسلحة القيادة السياسية بتخلي مبارك عن الحكم, وبرضا الشعب والثوار; لأنه أعلن إنحيازه لإرادة الشعب, ورفض قتل الثوار, وفي ظل غياب قيادة سياسية للثورة تحظي بتوافق وطني. وقد أعلن المجلس العسكري إعتذاره عن سقوط الشهداء, والتزامه باجراء تحقيق سريع وحاسم لمحاكمة كل من تسبب في أحداث التحرير. لكن المؤتمر الصحفي اللاحق إستبق نتائج التحقيق; باعلان أن الشرطة كانت في حالة دفاع عن النفس, واستخدمت قوة أقل مما يسمح لها القانون به!! وكان الواجب أن تدان وباستقامة جرائم الإستخدام المفرط وغير المشروع للقوة, والتعسف في استخدام الحق, وفض الإعتصام والتظاهر السلمي بغدر ووحشية. وقد استجاب بيان المشير طنطاوي ليلة مليونية الإنقاذ الوطني; لمطالب اقالة حكومة عصام شرف, وإتمام الانتخابات الرئاسية قبل نهاية يونيو, وإجراء الانتخابات البرلمانية في توقيتاتها المحددة. ولا شك لدي في إعلان المجلس العسكري أنه لا يهمه سوي مصلحة الوطن, ولا يرغب في الاستمرار في السلطة; لكن التكليف اللاحق للدكتور كمال الجنزوري بتشكيل الحكومة الجديدة, ودون إنكار كفاءته ونزاهته, أثار رفض من ينشدون تشكيل حكومة إنقاذ, تستجيب لأوضاع وتدرك مهام ما بعد ثورة يناير, وتتمتع بأوسع وفاق وطني وبثقة شباب الثورة, وبصلاحيات رئاسية لإدارة العملية السياسية لوضع أساسات بناء نظام جديد. وقد تجاهل إنكار ضرورة إعادة جولة الإنتخابات البرلمانية- مع إتمامها والإنتخابات الرئاسية في حدود التوقيت النهائي المعلن لها- حالة الإحتقان السياسي والإنفلات الأمني, وما تنذر به من ضعف مشاركة الناخبين تخوفا أو إحباطا, وضعف الثقة في انتخابات آمنة ونزيهة تجري في ظل حكومة مقالة وجهاز أمن متداع. وكرس القرار هواجس عدم وقوف المجلس العسكري علي مسافة واحدة من جميع القوي السياسية; لأنه لم يراع أن ثمة قوي وأحزابا أوقفت حملاتها الانتخابية دفاعا عن كرامة وحرية وثورة المصريين, وإن أرضي من يلهث وراء وهم إختطاف البرلمان ووضع الدستور, وأفاد من ينطبق عليهم قانون الإفساد السياسي المتأخر!! وثمة هواجس باختطاف الثورة, وإستمرار حكم مصر وإدارة أمور المصريين وإجراء الإنتخابات ووضع الدستور بذات نهج النظام السابق, ومن ثم تكريس أسباب الصراع السياسي والإنفلات الأمني والأزمة الإقتصادية. وثمة غضب من عدم تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين والفاشلين, وعدم استعادة الأمن بمواجهة ممولي البلطجية وإعادة هيكلة وزارة الداخلية, وعدم الإستجابة لمطالب اقتصادية واجتماعية, مشروعة ويمكن تلبيتها, للفقراء ومحدودي الدخل, وعدم تحويل المدنيين الذين صدرت ضدهم أحكام عسكرية الي القضاء المدني لإعادة محاكمتهم, وعدم تحقيق العدالة الناجزة للقصاص من المسئولين عن قتل وإصابة وإستهداف عيون المصريين ودهسهم بوحشية وغدر. وقد حازت القوات المسلحة القدرة علي حماية الدولة من السقوط, ونجحت في مهمتها, دون ريب. لكنه بدلا من استفتاء يشق الصف ويهدر الوقت ويضاعف الألم, توجب الحكمة السياسية والمصلحة الوطنية والهيبة المستحقة علي المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن يتفرغ لمهامه الوطنية الجسيمة; في الدفاع عن مصر وحماية أمنها القومي وإعادة الأمن والأمان للمصريين, وأن ينقل الإدارة السياسية لمرحلة الإنتقال الي حكومة إنقاذ, تنهض بمسئولية بناء أسس نظام جديد يستجيب- ولا يمكن إلا أن يستجيب- لأهداف الثورة; ببناء أسس دولة المواطنة; دولة جميع مواطنيها, التي تعزز السيادة الوطنية لتكون مصر للمصريين, وتحمي جميع حقوقهم السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية والدينية; دون تمييز أو إنتقاص أو تهميش أو إقصاء. وكان غياب إدراك أن المواطنة هي الحل مبعث إخفاقات إدارة مرحلة الإنتقال من ثورة يناير المجيدة وحتي إنتفاضة نوفمبر المستمرة; التي أضافت الي إرث النظام السابق أخطاء جميع شركاء الثورة. ويتطلب تجاوز الإخفاقات تصفية أسباب الفوضي والإنفلات الأمني, بتشكيل أقوي حكومة توافقية, وإعادة بناء الثقة في السلطة الإنتقالية, واستيعاب معني الثورة, وتشكيل قيادة جماعية للقوي الثورية, وعدم رفع شعارات أو اتخاذ مواقف مغامرة, والإستجابة للممكن من المطالب الاقتصادية, وتطهير وتطوير وزارة الداخلية لتصبح في خدمة الشعب, وملاحقة المسئولين عن تمويل البلطجة, والتصدي للدور التخريبي للقوي المعادية لثورة25 يناير, وتفعيل قانون الإفساد السياسي, وردع خطاب التحريض الديني والطائفي, وتعزيز الحرية المسئولة للصحافة والإعلام بالتغطية المهنية للأحداث, والعرض المتوازن للآراء, ونشر المعلومات الموثقة, وتنوير الرأي العام, والتصدي للمؤامرات الخارجية الهادفة لإفشال الثورة. وعلي حكومة الإنقاذ إدراك أن الإضرابات والإعتصامات والمظاهرات المسماة فئوية, بمطالبها المشروعة وبآثارها السلبية, تعبر عن البعد الاجتماعي لثورة25 يناير, التي أطلقت عقال إحتجاجات ما قبل الثورة, مع فورة توقعات هائلة. ولا جدال أن ثمة مطالب فئوية غير مشروعة لكن هناك مظالم يمكن ويجب رفعها فورا, وثمة فقر مطلق يوجب وضع حد أدني للأجور فورا بما يضمن حد الكفاف الإنساني, وفقر نسبي يتطلب تنمية حقيقية ومستدامة تكفل تحسين دخول ونوعية حياة المصريين,. وعلي حكومة إنقاذ, تتمتع بثقة الأمة وتملك رؤية شاملة وخريطة طريق وبرنامج عمل, أن تقدم خطابا سياسيا يقنع الأمة بأن تلبية حقوق المواطنة الاقتصادية والاجتماعية تستحيل بغير بناء نظام جديد, يحقق كفاءة تخصيص الموارد ويلتزم بعدالة توزيع الدخل, وينهي اللغو عن سوق حرة; لم ولن تسقط ثمار النمو علي الفقراء في مصر, ولا في أي مكان. وبينما ينبغي علي الدولة ردع المضاربين والمحتكرين والفاسدين وتغيير سياسات إقتصادية زادت الفقراء فقرا والأثرياء ثراء, فانه علي الرأسمالية نبذ نهج خصخصة الأرباح وتعميم الخسائر والنهوض بمسئولياتها المجتمعية والوطنية. وعلي القوي السياسية وحكومة الإنقاذ مواصلة الحوار السياسي الجاد لبناء توافق وطني علي ضوابط تشكيل الجمعية التأسيسية للدستور بواسطة البرلمان والرئيس المنتخبين; بحيث تعبر عن جميع مكونات وقوي وتيارات واتجاهات الأمة, لأن الدستور لا تضعه أغلبية برلمانية اليوم; ليتبدل مع غيرها غدا. وعلي هذا الحوار أن يبني علي وثائق الأزهر والتحالف الديموقراطي وغيرها, للتوافق علي المباديء الدستورية لحقوق الإنسان والمواطنة الثابتة, مع عدم منح أي مؤسسة سلطة فوق المؤسسات الدستورية. وهذا وحده ما يحول دون إنقسام الأمة مجددا عند وضع الدستور بعد الانتخابات, ويسرع عملية بناء النظام الجديد بغير وقت مهدر وثمن فادح وتكلفة باهظة. المزيد من مقالات د. طه عبد العليم