يخطئ من يقول إن الثورة المصرية فشلت. ويبالغ من يقول إنها نجحت. والصواب أن يُقال إنها نجحت في أشياء، وما زالت تنتظر النجاح في أشياء أخرى. ومن شهد ميدان التحرير في الأيام الأولى للثورة، وطالع قائمة مطالبها المبثوثة هنا وهناك يدرك أن نسبة من المطالب المتعلقة بإزالة النظام السابق قد تحققت، وبقي استكمال البناء الثوري لإقامة دولة المؤسسات الفتية والناهضة. ولاشك أن الاحتفال بمرور عام على اندلاع الثورة يمنح فرصة مناسبة لتقويم الثورة، وما تحقق من مطالبها، وما ينتظر التحقيق. ثم الإجابة عن السؤال الأهم: أي مسار للثورة، وأي أولوية لها.. بعد الآن؟ هنا تتعدد الإجابات، وتتباين الرؤى، بقدر تباين القوى السياسية، والفصائل الثورية، والائتلافات الشبابية، وقد ثبت من خلال الواقع المُعاش أن ما بين هؤلاء اختلاف تضاد، وتنافر مذموم؛ يُراد له أن يستمر، حتى لا تعرف مصر سبيلا للاستقرار، مع أنه كان يمكن أن يتحول إلى اختلاف "تنوع محمود". إنه التحدي الذي يواجهنا كمصريين الآن.. الاتفاق على مسار واضح للثورة.. وهناك أمامها طريقان.. إما المضي في سيناريو يحظى بتأييد شعبي واسع، ويقضي بالاستمرار في تنفيذ مقتضيات المرحلة الانتقالية، وذلك بالذهاب إلى انتخابات مجلس الشورى، بعد اكتمال انتخابات مجلس الشعب، وما يتلو ذلك من تشكيل جمعية تأسيسية لوضع الدستور، وصولا إلى إجراء انتخابات رئاسية. ولا تتعارض تلك الانتخابات مع كتابة الدستور، والأفضل أن تسبقه، بحسب رؤية الفقيه الدستوري طارق البشري، حتى لا تكون هناك شبهة هيمنة أو تأثير من العسكر عليه. السيناريو الثاني لمسار الثورة يتكون من أفكار عدة متناثرة هنا وهناك، ومن أبرزها تسليم السلطة لمجلس الشعب المنتخب، أو إسناد رئاسة البلاد إلى رئيس هذا المجلس، أو تشكيل مجلس رئاسي، أو إعادة الانتخابات من جديد، بزعم أنها "لم تكن عادلة"، كما يعتبرها الكاتب علاء الأسواني. ومن الواضح أن الرغبة الشعبية تميل إلى الاختيار الأول، ليس حبا في استمرار المجلس العسكري في إدارة شئون البلاد، التي أثبت عدم جدارته بها، وإنما من باب ارتكاب "أخف الضريين"، بحسب تعبير الكاتب فهمي هويدي، وكون هذا الاختيار أقل كُلفة، وأسرع إنجازا، كما أن أي تصور بخلافه سيتطلب العودة إلى الشعب لأخذ رأيه فيه من جديد. وبينما ترى نسبة كبيرة من الثوار "الأوائل" أو مفجري الثورة الحقيقيين أن مبادئ الثورة يتم تطبيقها بشكل تدريجي، وها نحن نرى مجلس شعب منتخبا، تم القضاء فيه على الحزب الوطني المنحل.. يختزل الثوار "الأواخر" (الذين التحقوا بقطار الثورة متأخرا، ولزموا ميدان التحرير وشارعي قصر العيني ومحمد محمود)، في القصاص لشهداء أحداث الشارعين وماسبيرو، ومطالب أخرى فرعية، انحرفوا بها عن مسار الثورة، وقزموا مطالبها، وكبلوها بأعباء إضافية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو: حق الملكية الفكرية والمادية الخاص بالثورة.. لِمَنْ.. هل هو لهؤلاء الثوار "الأواخر" فقط؟ لا.. إنه للشعب المصري كله.. الذي وإن خرج منه نحو عشرة ميلايين في الثورة.. فإنه خرج منه أكثر من ثلاثين مليونا؛ ليدلوا بأصواتهم في أول انتخابات حرة لبرلمان الثورة، أتت بممثلين ارتضاهم الشعب، وهكذا انتقلت الشرعية من الميدان إلى البرلمان، وإن كان المرجو - كما يقول الدكتور محمد المهدي - أن يتم "التحالف بين البرلمان والميدان"، في خلال الفترة المقبلة. لقد أثبت الشعب المصري أنه قادر على مواجهة التحديات، دون حاجة إلى طنطنة القوى الليبرالية التي تمارس "الديكتاتورية"، كما قال الدكتور عمرو حمزاوي، إذ ظلت تطالب بتطبيق قوانين العزل السياسي على عناصر الحزب الوطني المنحل، في حين أن الأمر لم يكن يحتاج سوى إلى ما فعله الشعب واقعيا بعزل هؤلاء عن البرلمان المقبل، وبعد أن كان أعضاؤه يمثلون 97% من أعضاء مجلس الشعب المزور في عام 2010، أصبحت نسبتهم لا تتجاوز 3%، وعددهم لا يزيد عن أصابع اليدين، في البرلمان الجديد. هذا بينما توزع الثوار الحقيقون على أنحاء البلاد، فمنهم من التحق بقطار البرلمان، ومنهم من التحق بقطار السياسة (تأسيس أو الانتماء لأحزاب جديدة)، ومنهم من عادوا إلى أعمالهم، ومنهم من ركزوا جهودهم في معركة البناء، وأخيرا: منهم من استمروا في الميادان، وهؤلاء هم الأقلية، ممن استهدفوا بتواجدهم الضغط لاستكمال تنفيذ مطالب الثورة. والأمر هكذا؛ على الجميع أن يثق في شعبنا العظيم وقواه الحية، وفي القلب منها الإسلاميون، وأن يوقن بأن مخطط إشعال الفتن الداخلية بين قوى الثورة لن يفلح، وأنه سوف يتم - خلال أسابيع، وربما أيام؛ إلغاء حالة الطوارئ التي أبقاها المجلس العسكري دون داع، وأنه ليس صحيحا ما يُشاع من عقد صفقات بين المجلس والإسلاميين، أو أنه سيُسمح له بالتأثير في وضع الدستور، أو أن تكون له فيه مادة خاصة، فهذ كله محض افتراء وكذب. [email protected] المزيد من مقالات عبدالرحمن سعد