اهتم الأزهر الشريف بمسائل الاعتقاد اهتماما كبيرا، وجرى في دراستها وتناولها على منهجية سديدة ومنضبطة، لأن العقائد هي المنظورُ الكليُّ الأعلى الذي تتأسس عليه الأحكام الفقهية، وتنبع منه الآداب، وتنبني عليه منظومة القيم، ولأن العقائد أيضا هي: المبادئ العليا التي ينظر الإنسان من خلالها إلى الكون والحياة، فيتحدد بناء على ذلك منهج الإنسان في تحديد أهداف حياته، واختيار أولوياته، وتكوين مسلكه في معيشته، والأزهر مدرسة علمية عريقة عمرها ألف سنة، وهذا العمر العلمي الطويل لا يُعرف لأي مدرسة أخرى على وجه الأرض، حيث تعيش المدارس العلمية زمنا يقدر بالسنوات والعقود أو القرون، ثم تضمر وتتفكك وتموت، لتنشأ مدارس أخرى غيرها وهكذا، لكن الأزهر حظي دون غيره من المدارس بهذه الخبرة العلمية النادرة، التي لا تتكرر، والتي استشف من خلالها عددا من الضوابط والمحددات والتي يراعيها في اختياراته العلمية، في أبواب الاعتقاد، وفي أبواب الفقه والأحكام، وفي أبواب الآداب والسلوك، وكان من جملة تلك المحددات التي احترمها الأزهر بشدة، وأسس عليه اختياره وانتقاءه لمناهجه هو أن ينظر إلى ما استقرت عليه الأمة المحمدية في كل تلك الأبواب، فيختاره ويعتمده، ولا يميل أبدا إلى مناهج مهجورة، أسفرت الأمة المحمدية بمدارسها وعلمائها وخبرائها على تركها، فنتج من ذلك كله أن اختار الأزهر الشريف طريقة الأشاعرة في دراسة العقائد من بين عدد من المناهج الاعتيادية المطروحة للنقاش، لأن تلك الطريقة الأشعرية هي التي نقلت عقائد سلف الأمة بأمانة، دون انتقاص، واجتهدت في خدمتها والدفاع عنها ومناقشة ما يثار حولها من إشكاليات، وفق منهج علمي سديد ومؤصل، ونظير ذلك أن الأزهر الشريف اختار المذاهب الفقهية المعتمدة في التدريس والتعليم، والتمس في مقام الفتوى من بقية مذاهب الفقهاء والمجتهدين ما يتسع به الأفق، ويسعف المكلفين في مواضع الحاجة، وفي الأمور المستجدة، وفق منهج دقيق في الاختيار الفقهي، كما أشرت إلى ذلك في مقال سابق، وهذه الطريقة الدقيقة في اختيار بعض المناهج هي التي اعتمدها الأزهر الشريف وسار عليها، وهي التي أكسبته عبر تاريخه سمعة علمية رفيعة بين سائر المدارس العلمية في المشرق والمغرب، وقد نتج من ذلك كله أن حفظ الأزهر الشريف عموم المسلمين في المشرق والمغرب من المناهج الاعتقادية المتطرفة أو المختلة أو المشوهة، التي تحول صاحبها إلى عقلية منغلقة أو متهجمة أو مسارعة في التحامل والتكفير، وتلك المنهجية العلمية الاعتقادية الدقيقة هي التي حفظت العقول من فكر التكفير الذي يكفر الناس بسبب اختلافات فقهية، أو مسائل فرعية، أو يكفر الناس بالذنوب والصغائر، وقد كتب فضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي، عضو هيئة كبار العلماء، ووزير الأوقاف الأسبق، مقالا مهما يتعلق بهذه القضية، نشر هنا في جريدة الأهرام، بعنوان (المدخل الأشعري، نقاء المذهب، وسماحة الشخصية المصرية)، يدرس فيه كيف تغلغل هذا المنهج الاعتقادي الموزون إلى أعماق الشخصية المصرية، فكان من أسباب استمرار واستقرار الشخصية المصرية على وضوح الاعتقاد، واتزان الشخصية، وعدم الانجراف إلى العنف والتكفير، فمن جملة كلام فضيلته قوله: (ومن ثم ينفر الفكر الأشعري أصولا وفروعا من التكفير، ومن كل ما يشتم منه رائحة التكفير، رافضا رفضا مطلقا كل الانحرافات التكفيرية التي تعاني منها الأمة قديما وحديثا، والتي خرج بعضها علي الأمة المسلمة, يقتل برها وفاجرها، فإذا بالإسلام ذاته وقد اصطبغ, بتأثير تلك الانحرافات، بلون الدم القاني، واتسم بسمة العنف المقيت، وهو من كل ذلك براء)، وأرجع لأقول: إن هذا الرافد من الروافد العلمية الأزهرية، يمثل أحد المسالك التي حافظ من خلالها الأزهر على عقلية الإنسان المصري وشخصيته، وجعل مصر على مد عدة قرون هي رأس المدرسة العلمية والفكرية في الإسلام، وسرى أثره إلى المجتمع المصري، وسرى منه إلى سائر الوفود والبعوث التي جاءت للدراسة في الأزهر، فرجعت من مصر إلى أوطانها بالبصيرة والاستقرار، على أساس منهج علمي صحيح، دارت به حركة المجتمع، وحركة الحضارة، وتفرعت منه منظومة المعرفة والأخلاق، مع تحصين ووقاية من الشطط الذي يجر الفكر إلى التكفير والتطرف، ومن هنا تتضح خيوط العلاقة بين الفكر وبين السلوك، وأن انحراف السلوك والميل إلى العدوان يكمن وراءه منهج فكري غارق في التشويش والاضطراب، ولا يزال الأزهر الشريف معتزا باختياراته العلمية، ومناهجه المعرفية، التي تستنير بها العقول، وتتحقق بها مقاصد الشرع الشريف. لمزيد من مقالات د شوقى علام