بدأت في جنيف الجمعة الماضية أعمال مؤتمر جنيف2 للبحث عن تسوية سلمية للأزمة السورية, وذلك بعد حوالي20 شهرا من المناقشات والإعداد لهذا المؤتمر, وقد سبق انعقاد المؤتمر لقاء تحضيريا, جلس خلاله وفدا النظام والمعارضة علي مائدة واحدة, وقد عكست التصريحات, التي صدرت من طرفي النزاع, وممثلي القوي الإقليمية والدولية ذات الاهتمام, تفاوت المواقف وتعارض قراءة الحكومة والمعارضة لوثيقة جنيف1, التي من المقرر أن تكون محور التفاوض في المؤتمر, فبينما تركز المعارضة ومعها الدول الداعمة, علي التركيز علي تشكيل حكومة انتقالية لا يكون فيها مكانا للأسد كقضية محورية للمؤتمر, يركز وفد النظام علي أولوية مكافحة إرهاب الجماعات المسلحة في سوريا دون الاعتراف بوثيقة جنيف1, ومناقشة إمكانية اتخاذ إجراءات بناء الثقة علي أن تكون هذه هي القضية المحورية كأولوية للنقاش. ومن الملاحظ أن وفد المعارضة السورية قد حسم مشاركته في المؤتمر الأسبوع الأخير, كما أن الوفد الذي شكله للمشاركة لا يعبر عن القوي السياسية المنضوية في المعارضة, خاصة بعد انسحاب المجلس الوطني منه, والذي رفض فكرة الحوار مع النظام, كما أن هذا الوفد رغم أنه ضم ممثلين لجماعات كردية, إلا أنه غاب عنه أهم وأقوي تكتل كردي يفرض سيطرته علي المناطق الكردية, كما غاب عن المشاركة كذلك ممثلون لمعارضة الداخل, وترفض التدخل الإقليمي والدولي في الشئون السورية, ولم يضم الوفد أية قيادات عسكرية تمثل التنظيمات التي لها سيطرة علي الواقع الميداني العسكري في سوريا. وكذلك رفض الجبهة الإسلامية أكبر الفصائل, في المؤتمر, وهي غير مرتبطة بالقاعدة, لكنها ترفض الانضواء تحت قيادة جيش سوريا الحر. هكذا نري أن المعارضة ذهبت لمؤتمر جنيف2 تلبية لضغوط إقليمية دولية في الوقت الذي يفتقد فيه الائتلاف الوطني للمعارضة لشرعية تمثيل كافة مكونات كتل المعارضة السياسية, وافتقاد التأثير علي المعارضة العسكرية, وكان النظام يراهن علي رفض المعارضة الذهاب لمؤتمر جنيف كمبرر لعدم انعقاد المؤتمر دون تحمله مسئولية ذلك, وبالتالي فإن موافقة المعارضة رغم ما تشهده من انقسامات قد حققت لها مكاسب سياسية كانت تحتاج إليها. ولا شك أن النظام الذي كان يراهن علي فشل المعارضة السياسية في اتخاذ موقف موحد لا يزال يراهن علي حدوث خلافات ما بين مكوناتها إذا نجحت المماطلة وكسب الوقت خلال المؤتمر, خاصة أن الائتلاف الوطني المعارض يعاني من أزمة حادة بعد انسحاب أهم كتلة فيه, وهي المجلس الوطني الأكثر قربا من تيار الإخوان المسلمين, والذي يمارس نوعا من الابتزاز علي باقي فصائل المعارضة, وإن كان قد سمح أيضا لشخصيات مرتبطة به للمشاركة في وفد المؤتمر بصفة شخصية, للتعامل مع أي تطورات يمكن أن يتوصل إليها المؤتمر, وبما يسمح له بتأكيد نفوذه حال فشل المؤتمر, ويتيح له العودة لقيادة المعارضة. ومن الواضح أن استراتيجية النظام خلال المؤتمر كما بدا من تصريحات وأحاديث لقياداته تتركز علي البدء بالحوار حول كيفية اتخاذ إجراءات بناء ثقة من بينها وقف إطلاق النار في بعض المناطق خاصة حلب, وفتح ممرات آمنة لتوصيل المساعدات الإنسانية لبعض المناطق والقري المحاصرة, وهو أمر لا يمكن أن ترفضه المعارضة أو القوي الدولية في هذا التوقيت, كما تطالب به معارضة الداخل المختلفة مع الائتلاف الوطني للمعارضة, ولكن المشكلة بهذا الخصوص أن النظام يري أن تحقيق هذا المطلب الإنساني سوف يتطلب إجراءات وحوارا لتحديد: ما هي الجهة التي ستشرف علي هذه العملية, وما هي السلطات الممنوحة لها, وما هي آليات التنفيذ, وهي استراتيجية للنظام يمكن أن تسحب مفاوضات المؤتمر بعيدا عن القضية الرئيسية وهي نقل السلطة من النظام للمعارضة أو تشكيل حكومة انتقالية والتركيز علي قضايا فرعية يمكن أن ترتب مزيدا من الاختلاف داخل كيان المعارضة الهش, كما أن المؤتمر ينعقد في ظل تباين كبير في وجهات نظر الأطراف المشتركة والقوي الداعمة لكل طرف حول استراتيجية عمل المؤتمر وكيفية وضع خارطة طريق لمستقبل حل الأزمة السورية, الأمر الذي يوحي باستمرار جلسات المؤتمر دون سقف زمني محدد, كما كانت تطالب المعارضة بألا يتجاوز ذلك السقف ستة أشهر, وسوف يواجه المؤتمر كثير من الصعوبات, وبغض النظر عن تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الأخيرة المتشددة ضد الرئيس السوري ونظامه, وهي التي أثارت استياء الوفد الروسي, ورأي فيه خروجا علي ما تم الاتفاق عليه ثنائيا, ومحاولة القفز علي مفاوضات المشاركين في المؤتمر, فإن تلك التصريحات تبدو محاولة للإيحاء بتشدد أمريكي قد يرضي المعارضة, لكنه لا يتفق مع مجريات الأمور في المؤتمر. وقد جاءت تصريحات وزيري خارجية فرنسا وألمانيا لتكشف عن رؤية القوي الدولية ذات التأثير في القضية, والتي تتبني اعتماد مقاربة واقعية تعتمد علي الحد من سقف التوقعات المرتفعة, وتؤكد أن التفاوض لن يفضي إلي تحقيق انتقال السلمي دفعة واحدة, ولكن من خلال الخطوات الصغيرة التدريجية. وينعقد المؤتمر في ظل استمرار المواجهات العسكرية بين النظام والتنظيمات العسكرية الخارجة عن إطار ائتلاف المعارضة أو تمتلك المعارضة السياسية السلطة عليه, كما لا تزال التنظيمات المرتبطة بالقاعدة خاصة تنظيم داعش يحقق مكاسب ميدانية في مناطق جديدة في حلب والرقة, وبالتالي يثار تساؤل يتبناه النظام حول من سيتفاوض, وما هي سلطات المعارضة علي فرض أي حلول أو اتفاقيات يتم التوصل إليها علي الأرض في ذلك الواقع الميداني, وهل ستمتلك تلك المعارضة القدرة علي تطبيق وقف إطلاق النار إذا ما تم التوصل إليه في بعض المناطق, الأمر الذي يؤكد أن الأزمة السورية لا يزال أمامها طريق طويل للوصول إلي محطة التسوية, وأن مؤتمر جنيف2 يعتبر بداية لما يمكن أن نسميه في عالم التفاوض سياسة الخطوة خطوة, وبغض النظر عن تهديدات وزير الخارجية الأمريكي عن احتمال العودة للخيار العسكري, فإن الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية هي التي تؤمن بأن حل الأزمة السورية سوف يكون حلا سياسيا بما يعني أنها تهديدات جوفاء. ومن الواضح أن الموقف الروسي لا يزال في حدوده, ويضغط علي مجريات الحوار داخل المؤتمر ويتركز علي نوع من الانتقال السلمي للسلطة علي أن تشارك القوي الرئيسية في النظام ضمن الحكومة الانتقالية الجديدة مراهنا علي تحقيق النظام لمزيد من الانتصارات العسكرية, وتسحب الكثير من دعاوي المعارضة السياسية, وتفرض قبولا دوليا لذلك في النهاية, وبصفة عامة يمكن القول أن مؤتمر جنيف2 أمامه مراحل طويلة للتوصل إلي تسوية, ومن المرجح أن يشهد مزيدا من الخلافات, وأن يتسع السقف الزمني له. رئيس المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط لمزيد من مقالات د. محمد مجاهد الزيات