لما حلت أعياد الميلاد, وجدت نفسي أفتش عن أقباطي الثلاثة الذين يسكنونني, الآنسة رجوات البروتستانتية التي سحبتني خلف ظلها ثم اختفت, وناريمان الهاربة من عيني إلي قلبي الذي صار طائرها المدقوق علي صليبها, الذي صارملاكها الحارس,الذي صار ملاكها الأبدي, ثم عادل فيليب. تذكرت أيام الستينيات, لم تكن الأرض كروية, كانت مستوية, وكنت أطأها,وأجتاز بوابة المدرسة, أبي بكر الصديق الإعدادية بكوبري القبة, وكان زميلي القديم( جمال آدم) الذي تعثر بسبب البنات, قد استأنف دراسته في مدرسة ليلية بشارع الفجالة, الشارع نصفه الأول كان للكتب, ونصفه الآخر للسيراميك و القيشاني,وحوافه بيوت وكنائس, كل يوم كان (جمال) يذهب إلي المدرسة, ويسأم بعد الحصة الأولي, فيهجر المدرسة ويتجول في الشارع, حكي لي: كيف ذات مساء دخل إحدي الكنائس و استمع إلي مبشر يدعو الحضور ويناديهم بإخلاص: من منكم مستعد لأن يفدي المسيح بروحه, بأن يهدي المسيح روحه, كان جمال مبهورا ومرتبكا, ذات مساء, ذهبت إلي متاهات جمال, وتطلعت إلي الأبنية المضاءة جميعها, والرجال والنساء الذين يمرون, و اللافتات, كنت أبحث عن الكنيسة التي وصفها لي, ولم أصل, بيأس وقفت أمام فاترينة إحدي المكتبات, ونظرت أقرأ عناوين الكتب, اعترافات القديس أوغسطين, يغريني العنوان, اشتريت الكتاب الذي بدا لي كسيرة لها وجهان, سيرة جسد, وسيرة قلب, كان أوغسطين يكتب في إحدي رسائله إلي صديقه داريوس: ياداريوس, انظر لي جيدا في هذا الكتاب, حتي لا تمدحني أكثر مما استحق, وعندئذ لا تصدق ما يقوله عني الآخرون, بل ما أقوله أنا عن نفسي, يا داريوس, أدرسني جيدا, وانظر لما كنته في حقيقتي,عندما كنت معتمدا علي قواي,يا داريوس.., وبعد أن أكملت قراءة الاعترافات,لم أعد محتاجا إلي المبشر وإلي سماعه, أحسست بقوتي,لأنني استطعت أن أعبر الجسر الذي كنت أخاف منه, ففي الطفولة, كنا نتعلم كيف نؤذي مشاعر من يختلفون عنا, نهتف وراء قس يمر: الكنيسة وقعت, والقسيس مات, إخص عليك ياقبطي, يابتاع البنات, نهتف ونفرح, وكأننا نلعب, وفي العرس المقام في البيت الأبيض, بيت الأقباط, كنا نهتف: صلي الله علي محمد, لنفسد الإكليل, لنفسد نصف الإكليل, والأكبر منا, المعقدون, الذين معاناة أحدهم أكثر سوءا من معاناة أحدنا, كانوا ينقلون إلينا خبرات ومعارف أشبه برئات مسدودة, فنكح ولا نتنفس إلابصعوبة, الأقباط ذوو عادات سيئة, الأقباط ماكرون, الأقباط ضعاف قليلو العدد, الأقباط عظام زرقاء, روائح نسوتهم عطنة, لأن الختان يحمي من العطن, وهن لا يختتن, الأكبر منا المعقدون هؤلاء, قذرون, لايتبولون في فتحات دورات المياه, يتبولون علي الأرصفة, لما نجحت في الابتدائية كافأني أبي برحلة الصيف إلي الإسكندرية, كنا أربعة متلازمين, انفصلنا عن بقية الفريق, أبي ورجلان أسودان أكبرهما اسمه عبد الرسول, وأصغرهما بالصدفة اسمه أيضا عبد الرسول, الأول حكيم, لا يستطيع أن يبدأ يومه, قبل أن يضع مضغة أفيون صغيرة جدا في فمه, يقولون تحت لسانه, والثاني, أهوج, يزهو بفتوته الظاهرة, ويضحك فيكسو الدنيا بأسنانه البيضاء, كنا نحن الأربعة, نبتعد عن الزحام, ونبحث عن وحدتنا وهدوئنا, نبحث عن عزلتنا مع البحر, حين مررنا أمامه, استعرضناه, رأينا أمواجه وسمعنا صوته, واخترنا أقل أماكنه رهبة وأكثرها هدوءا, ونصبنا خيمتنا, فرح عبدالرسول الشاب, وخلع ملابسه ونظر إلي البحر, ودق بيديه الاثنتين علي صدره, كانت نظرته وحشية, لابد أن تحسده علي وحشيته وجنونه, ولما نزل وسبح وغاص وأوغل واتجه إلي الداخل, راقبناه, ثم انشغلنا عنه, حتي سمعناه يصرخ ويستغيث, كانت المياه تسحبه إلي الداخل ولا تسمح له بالخروج, وبعد أن كنا مرحين مشرقين, صرخنا بأصوات عالية, فأتي رجل بملابس رسمية, مسئول عن أمن البلاج, وأشار إليه بيده أن يخرج في اتجاه معين, وخرج عبدالرسول الشاب, وضحك منه عبدالرسول المسن, ونبهنا رجل البلاج إلي الراية السوداء التي تعني أن هذا المكان غير مرغوب فيه, وبين الذعر والفرح, فكرنا أن نأكل, فكرنا أننا جوعي, وبالبوصلة ذاتها التي قادتنا إلي المكان الأسود من البحر,بحثنا عن وحدتنا وهدوئنا, بحثنا عن عزلتنا مع الطعام, واهتدينا إلي مطعم في شارع لو أمسك فيه أحدهم إحداهن واغتصبها في منتصف الشارع لما وجد أحدا يمنعه, أو أحدا يتفرج عليه, وبعد أن فرغنا, اكتشفت أننا في منطقة كنائس, أن إله المنطقة ليس إلهنا, إنه إله الآخرين, وأن الطعام ليس طعامنا, إنه طعامهم, وتقيأت ما أكلت, كان عبد الرسول المسن وعبد الرسول الشاب, مثل إفريقيين من توجو, يصليان الفجر في مسجد المسلمين, وبعد الظهيرة يذهبان الي الكنيسة ويتلقيان منها البركة والمعونة, وفي الليل يسهران في مقهي يهودي يغنيان مقطعا من نشيد الأناشيد, ويشعران مع ذلك بالانسجام والراحة, نظر الاثنان إلي باستغراب, أبي صار مغموما, كانت المفاجأة قاسية عليه, في المدرسة الإعدادية, ستخصص الإدارة فصلا للتلاميذ المسيحيين, ولأن عددهم أقل من حمولة فصل, سيكملونه ببعضنا, كنت أدخل الفصل كأنني أقضي حكما بعقوبة أليمة, لكن عادل فيليب صار مصدر العزاء لي, كان جميلا, وقد قام دون قصد بتلقيني بعض فنون اللياقة واللطف, له شعر ناعم, وابتسامة ساحرة, وأطراف لدنة, وجسد كالحليب, يخيل إليك أن بشرته مصنوعة لتحمي هذا الحليب من الضياع, وفي عينيه الواسعتين خليط من الحنان والرقة والسلوي, كان التلاميذ جميعا يتناولون طعامهم في تآخ معتاد بين الفتيان في هذه السن, وكنت أجوع وأنتظر حتي آكل سندوتشاتي خارج الفصل, لذا فإنني عندما قرأت اعترافات القديس أوغسطين, أحسست بقوة لأنني استطعت أن أعبر الجسر, الذي كنت أخاف عبوره, أذكر أنه بعد عصر يوم سبت, ولا أعرف لماذا مازلت أذكر ذلك, بينما أتجه إلي الجزء الخاص بالكتب في شارع الفجالة, فكرت أن اكتفي بشراء الكتاب المقدس, وبعيدا عن غرفة جدتي, حيث الشمس تخترق النافذة الخلفية, وتلقي ضياءها فوق السرير, وتلسعني, بعيدا عنها شرعت في قراءة الكتاب, كنت أبحث عما هو أفضل من قراءة الروايات أو استظهار الشعر, الكتاب المقدس, تصور كتابا له رائحة, إنه درب خاص يؤدي إلي دروب وعرة,عند أول الكتاب, عند سفر التكوين, لم أستطع أن أبدأ الرحلة, إنني شخص يكره الروائح والعطور, ويفضل عليها روائح الطبيعة, من الرائع أن أتوقف بعض الوقت لأشم رائحة أبي, وحين أذهب إلي الحقول تكون المسألة مختلفة تماما, من نافذة جدتي ألقيت بالكتاب المقدس, وغسلت يدي أكثر من مرة, كانت الرائحة تطاردني, أمي تسألني: لماذا تكثر من غسل يديك؟ فلا أرد, وأبي ينظر إلي وجهي متسائلا, ولا أرد, ولكنني الآن أشعر أنه لاشيء أفضل من قراءة اعترافات القديس أوغسطين, لم أستطع أن أحمل الاعترافات معي إلي أي مكان, علي الرغم من أنني كنت أحمل الكتب معي إلي كل مكان, حتي عندما أذهب إلي دورة المياه, وكان أوغسطين قد أصبح علامتي الظاهرة, فبعده حننت لرؤية المذبح وسماع الأجراس, والإنصات التام للجمعة الحزينة وتراتيل الميلاد, والتفاخر بأنني أدخل نشيد الأنشاد والمزامير والأمثال والتكوين وأخرج منها كأنني أتجول في قلبي, سأختلي بالسيدة فاطمة وإلي جوارها مريم كأنهما أختان, وكأنني حارسهما, وسأختلي بناريمان و روح أمها اليصابات التي صارت جسر الرب ورئيسة الملائكة,ونرنم هللويا,باسم الآب,وباسم الابن, وباسم الروح القدس, ولما يرانا أبي ينضم إلينا, ويقرأ بصوت مرتفع, وهزي إليك بجذع النخلة يساقط عليك رطبا جنيا. المزيد من مقالات عبدالمنعم رمضان