هل لأفراد شعب ما رائحة تميزهم عن رائحة أفراد شعب آخر؟. بمعني آخر هل يمكن أن نميز رائحة المصريين ورائحة الإنجليز ورائحة اليابانيين مثلاً؟. قفز الأمر إلي ذهني حين كنت أقف مع صديق بالشارع عندما مر إلي جوارنا أحد الأشخاص فهلت بقدومه رائحة قوية لم أسترح لها ووصفها صديقي الذي عاش في الخليج طويلاً بأنها تشبه رائحة الهنود!.فهل للهنود حقاً رائحة تميزهم عن غيرهم؟. في الرواية الشهيرة «العطر» التي كتبها الألماني باتريك زوسكند كان بطل الرواية يمتلك أنفاً استثنائياً قادراً علي تمييز شتي الروائح ومعرفة الناس من رائحتهم دون أن يراهم فكان يعرف الكاهن من خلال رائحة الخل التي تميزه، ويعرف الشرطي من رائحة التبغ العالقة به وثالثًا من رائحة الحلبة وآخر من رائحة السباخ التي تفوح منه، وكانت أنفه هي دليله في الحياة كما كانت مقتله في النهاية. لقد أدركت ما عناه صديقي برائحة الهنود لأنني عشت فترة من عمري بالخليج وعرفت الهنود الذين يمثلون أكثر من ثلثي السكان هناك وقد خبرت بنفسي تلك الرائحة التي تحدث عنها صديقي ونسبها للهنود. ولكن في اعتقادي أن هذه ما هي إلا رائحة الفقر مخلوطة ببعض التوابل ليس أكثر. وقد أراني التجوال في أرض الله الفقراء والمعدمين من سكان العشش الصفيح في أفريقيا وفي جنوب شرق آسيا وفي عشوائيات مصر، وهي أماكن لا يمكن أن يصدر عن ساكنيها ما يسعد الأنف حيث مكان السكن عطن غير متجدد الهواء، والطعام في الغالب غير صحي وغير نظيف ومياه الشرب ملوثة، والصرف الصحي لا وجود له، ومن الطبيعي في ظروف كهذه أنّ عادات النظافة الشخصية لا يستطيع أن يكتسبها ويتمسك بها الكثيرون، بل ومن العادي أن يعتبرها البعض ترفاً لا يجوز التطلع إليه. ولي تجربة شخصية عندما كنت أبيع الجرائد في فيينا بالنمسا أثناء فترة الدراسة بالجامعة، وكنا مجموعة من الطلبة نعيش في شقة صغيرة لا خصوصية فيها لأحد ولا مكان لحفظ الملابس وتعليقها ولا يوجد بها حمام، بل توجد دورة مياه في كل دور تستعملها شقق الطابق كله، ومن أراد الاستحمام فعليه الذهاب للحمام العمومي ودفع مبلغ نظير الماء الساخن والصابون والشامبو. في هذا المكان كان الحفاظ علي الآدمية ونظافة البدن أمرًا ليس باليسير، وفيه عرفت شاباً ظل أربعة أشهر بدون استحمام حتي تعفّن بمعني الكلمة، وذلك من أجل أن يوفر فلوسه للحياة الحقيقية التي كان يري أنها ستبدأ بعد العودة للوطن!. ورأيت آخرين في نفس الشقة لم يصلوا لدرجة صاحبنا هذا لكنهم أهملوا استعمال فرشاة الأسنان والمعجون وكانوا ينامون بنفس الملابس التي يذهبون بها للعمل ولا يغيرونها إلا كل فترة. وهذا في تقديري هو حال العمالة الفقيرة في كل مكان. وبالطبع لا تخلو الحياة من فقراء معدمين شديدي الحرص علي النظافة رغم قسوة الحياة ولكن هذا استثناء لا يقاس عليه.. أما بالنسبة لصديقي الذي تحدث عن رائحة الهنود فلقد كانت خبرته ناتجة عن تجربته بالعيش في الخليج حيث العمالة الهندية الكثيفة وأغلبها يعيش في ظروف صعبة شديدة البؤس في مستعمرات سكنية مكدسة. ولكن بعيداً عن العمال الذين يتم جلبهم للعمل في ظروف غير إنسانية، وبعيداً عن الوسيط الكافر الجالب للعمالة سواء كان شركة أو فردًا، ذلك الذي يأخذ لنفسه معظم الراتب ويمنح العامل مبلغاً ضئيلاً يقوم بإرساله لأهله في حيدر آباد أو بيشاور ويعيش علي الكفاف.. بعيداً عن كل هذا لو أن صديقي مد بصره فنظر إلي المهنيين الهنود في الخليج كالأطباء والمهندسين والعلماء، أولئك الذين تؤهلهم خبراتهم لمكانة متميزة ودخل عالٍ وسكن طبيعي فلا أظنه كان سيذكر حديث الروائح هذا. هي رائحة الفقر إذن في كل زمان ومكان وليست رائحة شعب بعينه..كل الحكاية أنها مع فقراء الهنود تأتي مخلوطة بالكاري!.