بدأ الحديث عن العدالة الانتقالية ووجوب تطبيق آلياتها في مصر بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير, للتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان ومنع تكرارها. إلا أننا لم نشهد أي إنجاز حقيقي في هذا المسار بل ازدادت المظالم واشتدت حالة الانقسام والاحتقان بين أطياف المجتمع, وفشل من نادوا أو تنادوا بالعدالة الانتقالية في احتواء ظاهرة العنف المتجدد ومعالجة أسبابه وعمت سياسة الاستقطاب, فانتشرت نوازع الانتقام والتنكيل وشاع فكر التطرف والتكفير, وظهرت صورة جديدة من العنف تتخذ طابعا تنظيميا ممنهجا, وجماعيا في الكثير من الأحيان, إلي حد أن هدد مروجو العنف والإرهاب باستدعاء نموذج الإرهاب الأسود الذي ضرب الجزائر لمدة طويلة إلي مصر. ولم ينتبه الكثيرون لهذا التهديد الخطير, وسمحت حالة الهرجلة القانونية التي شهدناها جميعا بتنظيم الاعتصامات والمسيرات المسلحة وحصار دور العدالة والهجوم عليها. واستغل أعداء الخارج تلك الحالة للتآمر مع متطرفي الداخل ومدهم بالدعم المالي واللوجستي, والدفع بالمزيد من العناصر الإرهابية إلي داخل الحدود, لتنظيم الهجمات المنظمة لترويع الآمنين وتقويض دعائم الوطن, فانتقلنا من مستوي العنف السياسي إلي الإرهاب الداخلي, ثم إلي ظاهرة جديدة من الإرهاب الدولي المنظم متعدد الأطراف. ولما لاحظت, كما لاحظ أبناء الوطن, اتجاه البعض لتسخير مفهوم العدالة الانتقالية لتحقيق مصالح سياسية أو شخصية أو إرضاء جهات خارجية, بالدعوة لما أطلق عليه المصالحة الوطنية, سارعت إلي الكتابة في الصفحة ذاتها حول خطورة إساءة استخدام مفاهيم العدالة الانتقالية واختزالها في المصالحة مع فصيل أو تيار بعينه, في ظل موجة العنف والقتل التي كانت سائدة حينئذ بالبلاد, خاصة بعد أن حاول البعض استدعاء نماذج للعدالة الانتقالية التصالحية البحتة- مثل نموذجي المغرب وجنوب إفريقيا- لتطبيقها علي الوضع في مصر, بما يسمح بإفلات كبار المسئولين عن انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف والإرهاب من العقاب, فزاد ذلك من حالة الاحتقان المجتمعي. فبادرنا إلي طرح مقترح بمشروع قانون متكامل للعدالة الانتقالية لمحاولة ضبط مفاهيمها, وتأكيد أنه من غير الممكن الالتفاف علي مسار العدالة الجنائية تحت ستار العدالة الانتقالية, ودعمنا في ذلك نادي قضاة مصر الذي استشرف الخطر ويحمد للمشرع الدستوري أنه ألزم برلمان مصر المقدم بمقتضي المادة241 من دستور مصر الجديد علي سن قانون للعدالة الانتقالية في أول دور انعقاد له, فهذا هو المنهج الوحيد لإعادة الحياة للعدالة الانتقالية في مصر- بعد أن شاخت في مهدها أو كادت. والتساؤل الذي صار يطرح نفسه الآن: هل هناك مجال للحديث عن العدالة الانتقالية بعد أن استفحلت الهجمة الشرسة للإرهاب في ظل دعم خارجي تبدو مؤشراته واضحة؟ وهل يستلزم الأمر الآن التحول من دراسة نماذج العدالة الانتقالية التصالحية السابق ذكرها, للنموذجين الجزائري والأيرلندي اللذين قاما أساسا علي تطويع فكرة العدالة الانتقالية للتعامل مع العنف المسلح والإرهاب؟ وبعد التعثر في القصاص العادل لشهداء الثورة ورد حقوق الضحايا أليس من الواجب تطبيق آليات جبر الضرر وتخليد الذكري فورا علي ضحايا جرائم الإرهاب؟ والسؤال الأهم: هل تسبب سوء استخدام مفاهيم العدالة الانتقالية في استفحال ظاهرة الإرهاب؟ هذه بعض الأسئلة نطرحها علي الجهات المختصة بموضوع العدالة الانتقالية لكي تجري عليها الدراسات والبحوث؟. لقد آن الوقت لكي تعمل جميع مؤسسات الدولة علي مكافحة العنف والإرهاب من خلال إطار مؤسسي يعتمد علي استراتيجية وطنية شاملة تقوم علي البحوث والدراسات العلمية بدلا من اتباع سياسات الإصلاح الشكلية والسطحية التي تتسم غالبا برد الفعل المتسرع والتخبط والعشوائية, ومن المهم الاسترشاد في ذلك ببنود استراتيجية الأممالمتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب. كما حان الوقت لصياغة أنموذج جديد للعدالة الانتقالية يضع من بين أهدافه تقصي جذور العنف والإرهاب والتصدي لها- بمعاونة رجال الدين وخبراء علوم القانون والسياسة والأمن والاجتماع والنفس- يتمكن من مواجهة فكر العنف والتطرف والتكفير, ودحضه وإفشاله, وإعادة الاستقرار والسلم للمجتمع. وإن نشر الفكر الوسطي الصحيح عن الإسلام لا يتم من خلال خطب الجمعة فقط, بل من خلال منظومة دعوية مدروسة متكاملة, تصل إلي القري والنجوع, تشارك فيها أجهزة الدولة المعنية, مثل وزارات الأوقاف والإعلام والتعليم, بمساندة منظمات المجتمع المدني. إن العدالة الانتقالية, إذا أحسن تطبيقها, سوف تساعد علي بلوغ الأهداف المتقدمة من خلال آليات كشف الحقيقة, ووضع أسس المحاسبة الدقيقة علي جميع المستويات السياسية والإدارية والجنائية, مع إصلاح المؤسسات وتطهيرها شريطة تطبيقها من قبل كيان مستقل ومحايد يجمع المخلصين من أبناء الوطن ممن يتحلون بالكفاءة والقدرة والمصداقية, علي أن يتعاصر كل ذلك مع وضع سياسات فاعلة لتجفيف منابع الإرهاب والقضاء علي بنيته التحتية, في ظل ظهير شعبي تتضافر من خلاله جهود كل القوي الوطنية للذود عن أمن واستقرار الوطن. لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد