تناولت العديد من الكتابات والندوات, عميد الأدب العربي' طه حسين', في الذكري الأربعين لرحيله. وبالرغم من أهمية هذه الكتابات والندوات, وتناولها العديد من الأبعاد والقضايا, والجهود الفكرية والعملية, لأحد أهم رواد ورموز الاستنارة في القرن العشرين. إلا أن ثمة قضية لم تنل- بقدر علمنا- الاهتمام من حيث الطرح والتحليل, وهي قضية كتاب طه حسين' في الشعر الجاهلي', والأحداث التي ترتبت عليها, وما تحمله من عشرات الدلالات والأبعاد: السياسية والثقافية, ومن قبل ومن بعد, ما يتعلق منها باستقلال الجامعة, والحرية الأكاديمية في الجامعات المصرية. وفي السطور التالية, نحاول إلقاء الضوء وبإيجاز شديد حول هذه القضية والأحداث التي ترتبت عليها, وما حملته وتحمله من أبعاد ودلالات. ففي عام1926, أصدر طه حسين, كتابه' في الشعر الجاهلي' مستخدما المنهج الديكارتي في البحث عن الحقائق, والذي يقضي بتجرد الباحث من كل العواطف, أيا كان نوعها, والبحث عن الحقيقة مهما كانت قداستها, ونشر ما يتم التوصل إليه من نتائج مهما كانت آثارها وعواقبها. وبالفعل توصل طه حسين إلي الكثير من النتائج التي أثارت الجدل, ونقده, والهجوم عليه, الذي وصل حد اتهامه بالكفر والإلحاد. وفي هذا السياق تقدم رجال الأزهر وشيخه بالعديد من البلاغات للنيابة العامة ضد طه حسين, واتهامه بالإعتداء علي الدين الإسلامي. وتم تحويل طه حسين للنيابة, والتحقيق معه, وجاء قرار النائب العام( محمد نور الدين) بحفظ القضية لعدم ثبوت القصد الجنائي من الاتهامات المنسوبة لمؤلف الكتاب, وإنما كان القصد منها البحث عن الحقيقة, وما ورد من المسائل إنما كان بغرض الاستشهاد, لا بغرض الاعتقاد فيها. وبالرغم من عدم إدانة النيابة لطه حسين, ومن قيامه بتعديل كتابه' في الشعر الجاهلي', ليكون' في الأدب الجاهلي' فإن القضية تم طرحها في مجلس النواب والشيوخ, وذلك عند مناقشة قانون الجامعة المصرية, والمطالبة بالحد من اختصاصاتها حتي يمكن تجنب أمثال طه حسين, ممن تصدر عنهم الآراء المنافية لتعاليم الدين. لكن حدث في3 مارس1932, ما لم يكن في الحسبان حيث أصدر وزير المعارف آنذاك( حلمي عيسي) قرار بنقل طه حسين من الجامعة للعمل مستشارا بوزارة المعارف, مما أثار ردود فعل عنيفة في الوسط الجامعي, إلي حد قيام مدير الجامعة( أحمد لطفي السيد) بتقديم استقالته احتجاجا علي نقل طه حسين من الجامعة دون أخذ رأي مجلسها في هذا الأمر. بل لم يقف الأمر عند حد نقل طه حسين من الجامعة إلي وزارة المعارف, وإنما تم اتخاذ إجراءات أكثر ردعا لطه حسين, حيث أصدر مجلس الوزراء وبالاتفاق مع مجلس النواب قرارا( بتاريخ20 مارس1932) بفصل طه حسين من وزارة المعارف, ليكون آخر الإجراءات ضده وليسدل الستار علي أحداث تلك القضية, التي استمرت قرابة ستة أعوام منذ أثارتها في عام1926 وانتهت عام1932, بنقله من الجامعة إلي وزارة المعارف, ثم فصله منها نهائيا. ولكن لم يستمر الوضع طويلا بعد أن تغيرت الظروف السياسية; حيث عاد طه حسين للجامعة, ويترقي في المناصب, حتي وصل إلي منصب وزير المعارف, فضلا عن احتلاله المكانة المرموقة علي الساحتين: العربية والعالمية, كعميد للأدب العربي. وهنا نصل إلي طرح بعض الدلالات والأبعاد لقضية طه حسين وكتابه' في الشعر الجاهلي', وفي القلب من هذه الدلالات والأبعاد: مدي ستغلال الدين والحديث عن تقاليد المجتمع ومراعاة الأداب العامة في كبت الحريات, وتصفية الحسابات, وتحقيق المصالح والأغراض, وتوافق القوي المختلفة في الاضرار بحريات الجامعيين, لتحقيق أغراضها ومصالحها, مع ما قد يكون بينها من تباين في المصالح والأغراض. التصور الواضح لدي هذه القوي في فهم الحرية الأكاديمية للأستاذ الجامعي, وهي الحرية التي لا يقيدها سوي الفكر, والالتزام بالمنهج العلمي; فهي' حرية خاصة' يفرضها البحث عن الحقيقة, ومن ثم ضرورة اعتراف مختلف القوي بهذا النوع من الحرية للجامعيين وللمشتغلين بالبحث العلمي. بل وضرورة أن ينص الدستور علي الحرية الأكاديمية للأستاذ الجامعي, ولا يكتفي النص علي استقلال الجامعة, لأن الحرية الأكاديمية خاصة بالجامعيين كأفراد, أما استقلال الجامعة فيتعلق بالمؤسسات الجامعية. امكانية اتخاذ القوي الساسية من ممارسات أعضاء المجتمع الجامعي ذريعة للتدخل في شئون الجامعة, وأهدار استقلالها. خطورة الثغرات في النصوص القانونية المنظمة للجامعة المصرية, والتي لا تزال تعاني منها حتي اليوم. وكمثال إعطاء الوزير سلطة رئاسة المجلس الأعلي للجامعات بحكم منصبه. وأخيرا وليس آخرا تكشف هذه القضية عن مدي أهمية تضامن الجامعيين في الدفاع عن حرياتهم وعن استقلال جامعتهم, وحمايتها من الاختراق. وذلك إلي آخر هذه الأبعاد والدلالات للأحداث المرتبطة بقضية طه حسين وكتابه, والتي ما يزال الكثير منها وبالظروف التي أحاطت بها يعيش بيننا حتي اليوم, وربما في المستقبل إذا استمرت مثل هذه الظروف. لمزيد من مقالات د. محمد سكران