من حق المسلمين علي الحاكم ألا يستبد برأيه فيما يقوم به من شئونهم, وإنما يجب أن يأخذ رأيهم تنفيذا لقوله تعالي: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله إن الله يحب المتوكلين( آل عمران:159). وقوله سبحانه: والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شوري بينهم ومما رزقناهم ينفقون( الشوري:38). وقد جاء الخطاب, في الآية الأولي, بصيغة الأمر للرسول صلي الله عليه وسلم, ويعني ذلك أن يلتزم بها ولاة الأمر من بعده من باب أولي. فالرسول هو القدوة, قال تعالي: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة...( الأحزاب:21). واقتران الشوري, في الآية الثانية, بما هو واجب من الاستجابة لله وإقامة الصلاة... والإنفاق, يعني وجوب الشوري علي الحاكم والمحكومين, والشوري, وإن كانت واجبة, إلا أن القرآن الكريم لم يحدد لها مجالا معينا, ولا نظاما معينا, وإنما ترك الأمر لظروف الزمان والمكان, مما يكسب هذا النظام مرونة كبيرة. وأهل الشوري هم أهل الحل والعقد, وهم الجماعة الذين تتوافر فيهم أهلية اختيار الإمام وأهلية الشوري. وهم في ذلك ينوبون عن الأمة. ولم يحدد الفقه السياسي الإسلامي كيف يتم تحديد أهل الشوري لأن ذلك يختلف باختلاف الزمان والظروف. والشوري ليست وقفا علي الحاكم, وإنما هي أسلوب منهج يمارسه الجميع حكاما ومحكومين في جميع شئونهم التي لم يرد فيها نص في الشريعة الإسلامية. وقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم, والصحابة من بعده, يطبقون نظام الشوري, حتي إذا استقر الرأي علي أمر معين, واتخذ ولي الأمر القرار في ضوء المشاورة ومناقشة وجهات النظر المختلفة, وجب أن يلتزم به الجميع مؤيدين ومعارضين, مشاركين في التشاور أو غير مشاركين, ولا يجوز لأحد من أفراد الأمة الخروج علي هذا القرار, طالما كان تطبيقا لشرع الله وسنة رسوله الكريم. قال تعالي: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا( النساء:59). وقال الرسول صلي الله عليه وسلم: السمع والطاعة علي المرء المسلم فيما أحب وكره, إلا أن يؤمر بمعصية, فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة( صحيح مسلم). وقد طبق الرسول صلي الله عليه وسلم نظام الشوري في عدة مناسبات, نذكر منها علي سبيل المثال: شاور الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه في شأن أسري بدر من المشركين, فأشار عليه أبو بكر أن يقبل فيهم الفداء ويطلق سراحهم, وأشار عمر بن الخطاب بقتلهم, فأخذ الرسول برأي أبي بكر فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. ولكن القرآن الكريم نزل مؤيدا رأي عمر في قول الله تعالي: ما كان لنبي أن يكون له أسري حتي يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم( الأنفال:68,67). وعندما اشتد الأمر علي المسلمين في غزوة الخندق, وازدادت قوة الأحزاب, أراد الرسول أن يدفع قوتهم بعقد صلح مع غطفان وهي إحدي قبائل الأحزاب فعرض علي قائديها صفوان بن عيينة, والحارث بن عوف أن يعطيهما ثلث ثمار المدينة في مقابل أن يتراجعا بمن معهما فقبلا, ثم بعث إلي سيدي الأوس والخزرج سعد بن معاذ وسعد بن عبادة يستشيرهما في إجراء هذا الصلح, فسألاه إن كان هذا الصلح من عند الله تعالي أم أنه رأيه صلي الله عليه وسلم من أجل المسلمين, فقال عليه الصلاة والسلام: بل إنه شيء أصنعه لكم, والله ما صنعت ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة واشتدوا عليكم, فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم لأمر ما فقالا: يا رسول الله لقد كنا نحن وهؤلاء القوم علي الشرك بالله وعبادة الأوثان, لا نعبد الله ولا نعرفه, وكانوا لا يطمعون منا بثمرة إلا قري أو بيعا, أفحين أكرمنا الله بالإسلام وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بذلك من حاجة, والله لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم الله بيننا وبينهم. فسر النبي صلي الله عليه وسلم وقال: أنتم وذاك وقال لصفوان وحارث: انصرفا ليس لكم عندنا إلا السيف. ويثور التساؤل عن مدي التزام الحاكم برأي الأغلبية في نظام الشوري؟ فإذا كان الحاكم ملزما بأن يطبق نظام الشوري, وفقا لما ورد في القرآن الكريم كما تقدم, فهل هو ملزم بما انتهي إليه أغلب أهل الشوري؟ اختلف الفقهاء في ذلك: فرأي البعض أنه ملزم ورأي البعض الآخر غير ذلك مستندين في ذلك إلي قوله تعالي: فإذا عزمت فتوكل علي الله( آل عمران:159). قال القرطبي: والشوري مبنية علي اختلاف الآراء, والمستشير ينظر في ذلك الخلاف وينظر أقربها قولا إلي الكتاب والسنة, فإذا أرشده الله تعالي إلي ما شاء منه, عزم عليه وأنفذه متوكلا عليه. إذ هذه هي غاية الاجتهاد المطلوب, وبهذا أمر الله نبيه في هذه الآية. ويذكر التاريخ الإسلامي مواقف كثيرة استشار فيها الحاكم أهل الحل والعقد, أي أهل الشوري. واستمع إلي آرائهم وتأمل في وجهات نظرهم المتباينة ثم اتخذ قراره في ضوء ذلك بما حقق المصلحة العامة. وكان أحيانا يأخذ برأي الأغلبية, وأحيانا يأخذ برأي الأقلية. فإذا صدر القرار يجب عندئذ أن يلتزم الجميع بهذا الرأي, وذلك استنادا إلي قول الله عز وجل: وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا( الحشر:7). ويري البعض أنه إذا كان هذا الرأي الأخير مقبولا في صدر الإسلام, حيث كان الحاكم تتوافر فيه شروط الإمامة, ويتم اختياره بطريق مشروع, ويكون موضع ثقة الأمة.. فإنه غير مقبول في العصر الحاضر, حيث افسدت أنظمة الحكم, وانتشر الفساد, واختلت معايير الاختيار, فإن من المصلحة أن تكون الشوري ملزمة للحاكم فيخضع قراره لرأي الأغلبية ضمانا لتحقيق المصلحة العامة.