الوظيفة العامة في الإسلام, ابتداء من رئاسة الدولة حتي أدني الأعمال بها هي خدمة يؤديها شخص تحقيقا للمصلحة العامة في المجال الذي يعمل فيه. وبناء علي اختيار أفراد الأمة. ولا تشغل أي وظيفة قهرا عن هذه الإرادة العامة, ومن هذا المنطلق فإن من حق أفراد المجتمع الذين اختاروا رئيس الدولة أن يراقبوا أعماله ويحاسبوه علي أخطائه, فإن أحسن أعانوه وإن أساء عزلوه واختاروا من هو أقدر علي القيام بهذه المهمة. والضابط في اختيار رئيس الدولة, هو ضابط الكفاءة والقدرة والصلاحية, ومن ثم فهذا المنصب ليس وقفا علي فئة معينة, أو طبقة معينة, أو أسرة معينة. ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم ولا السنة النبوية الشريفة مايشير إلي أن يكون من يتولي أمر المسلمين من فئة أو أسرة معينة. ومقتضي ذلك أن يكون اختياره معهودا به إلي الأمة تختار من تشاء. وقد مارس المسلمون الأوائل هذا الحق عند وفاة الرسول صلي الله عليه وسلم: فقد اجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة, وتشاوروا وتبادلوا الرأي فيمن يمكن أن يخلف رسول الله صلي الله عليه وسلم في حكم المسلمين. وقد استقر رأيهم في النهاية علي مبايعة أبي بكر الصديق. وهكذا تولي أبوبكر الخلافة بناء علي تشاور المسلمين وبإرادتهم الكاملة. وعندما استشعر أبوبكر قرب انتقاله إلي الرفيق الأعلي, جمع الناس وقال لهم إنه قد نزل بي ماترون ولا أظنني إلا ميتا, فأمروا عليكم من أحببتم, فإنكم إن أمرتم في حياتي مني كان أجدر ألا تختلفوا بعدي. فتشاور المسلمون في الأمر ورأوا أن يعهدوا بترشيح الخليفة الجديد إلي أبي بكر, فرشح عمر بن الخطاب, بعد أن أجري مشاوراته. ولم يأت الترشيح نتيجة إجماع وإنما بالأغلبية, فقد كان البعض يعارض هذا الترشيح, فقد دخل طلحة بن عبيد الله علي أبي بكر فقال أستخلفت علي الناس عمر وقد رأيت ما يلقي الناس منه وأنت معه, فكيف به إذا خلا بهم, وأنت لاق ربك فسائلك عن رعيتك؟ فقال أبوبكر: إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت علي أهلك خير أهلك. كذلك كان الشأن في اختيار الخليفة عندما أزفت ساعة وفاة عمر عقب الطعنة التي أصابته, فقد قال له البعض: استخلف يا أمير المؤمنين, قال: ما أريد أن أتحملها حيا وميتا, إن استخلفت فقد استخلف من هو خير مني أي أبوبكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني أي رسول الله صلي الله عليه وسلم واقترح عليهم ستة من الصحابة هم, عثمان بن عفان, وعلي بن أبي طالب, وعبد الرحمن بن عوف, وسعد بن أبي وقاص, وطلحة بن عبد الله, والزبير بن العوام. وقد أضاف عمر رضي الله عنه إلي هؤلاء ابنه عبد الله ليؤخذ رأيه, دون أن تكون له الخلافة. فلم تكن الخلافة في نظر هؤلاء المسلمين الأجلاء مطمعا يتطلع إليها في ذاتها وإنما كانت أمانة, وهي مهمة ثقيلة وعبء لا يحمله إلا من يقدر عليه, ويعطيه حقه ويطبق من خلاله أحكام الشريعة الإسلامية الغراء, مستهدفا دائما تحقيق مصالح الدولة الإسلامية. ومن هنا نفهم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفض أن يرشح ابنه عبد الله لخلافة المسلمين. فقد حدث أن اقترح عليه المغيرة بن شعبة أن يستخلف ابنه عبد الله وكان ورعا تقيا علي المسلمين من بعده, فرفض عمر قائلا: لا إرب لنا في أموركم, ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي. إن كان خيرا فقد أصبنا منه, وإن كان شرا فبحسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد. كذلك نجد أن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عندما ذهب إليه بعض الصحابه في بيته لمبايعته خليفة بعد مقتل عثمان بن عفان, رفض واشترط أن يكون ذلك في المسجد قائلا إن بيعتي لا تكون خفية ولا تكون إلا عن رضا المسلمين فدخل المسلمون المسجد وبايعوه. كذلك رفض توريث الحكم عندما أوشك علي الموت بعد ما طعنه في المسجد عبدالرحمن بن ملجم من الخوارج, حيث سأله بعض المسلمين ألا تستخلف؟ فقال: لا, ولكن أترككم كما ترككم رسول الله, فإن أراد الله بكم خيرا يجمعكم علي خيركم, كما جمعكم علي خيركم بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم. وحتي عندما آل حكم بني أمية بالوراثة إلي عمر بن عبد العزيز, فإنه لم ير في التوريث ما يسبغ الشرعية علي حكمه, ولذلك دعا الناس إلي المسجد وقال لهم:أيها الناس.. إني قد ابتليت بهذا الأمر أي وراثة الحكم عن غير رأي كان مني فيه, ولا طلبة له, ولا مشورة من المسلمين, وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي, فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون فاختاروه أميرا للمؤمنين برضائهم واختيارهم. ويفرض الإسلام علي الأمة طاعة ولي الأمر قال تعالي: يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم59( سورة النساء). وهذا الالتزام موقوف علي تطبيق الحاكم شرع الله حيث أمره الله تعالي بذلك: فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق48( سورة المائدة). وقال عليه الصلاة والسلام: السمع والطاعة علي المرء المسلم فيما أحب وكره, ما لم يؤمر بمعصية, فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة( صحيح البخاري). وقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل( مسند احمد). ومن واجب الحاكم أن يحسن معاملة الرعية, وأن يرعي مصالحهم لقوله صلي الله عليه وسلم: كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالأمير الذي علي الناس راع عليهم وهو مسئول عنهم...( مسند احمد). وأن يتعامل معها بالصدق والأمانة, قال الرسول صلي الله عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة( صحيح مسلم). ويجب علي الحاكم أن ينشر العدل بين الناس. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله علي منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل, وكلتا يديه يمين, الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا( صحيح مسلم). كذلك يجب علي الحاكم أن يترفق بالمحكومين ولا يشق عليهم, قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: اللهم من ولي أمتي شيئا فشق عليهم فاشقق عليه, ومن ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به( صحيح مسلم). فإذا تنازع الحاكم والمحكومون علي أمر من الأمور, فإن القرآن الكريم يضع قاعدة لمواجهة هذا التنازع في قول الله تعالي: فإن تنازعتم في يء فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر.