تكدس السيولة المحلية في البنوك والندرة في منح الائتمان لشباب المشروعات الصغيرة ورجال الأعمال معادلة معطياتها مركبة تحتاج إلي حلول عملية سريعة حتي لا يدخل الجهاز المصرفي في دوامة الازمات. ففي الوقت الذي يعرض فيه عدد من البنوك76 مليار جنيه سيولة فائضة علي البنك المركزي لاستثمارها في ودائعه يصرخ الشباب من أصحاب المشروعات الصغيرة وكذا رجال الأعمال من تعسف البنوك عند منح الائتمان, حيث تغالي في طلب الضمانات المفرطة بجانب ارتفاع أسعار المنتجات المصرفية. لم يكن رجال الأعمال وشباب المشروعات الصغيرة هم الضحايا.. بل المودعون أيضا الذين يصرخون من تآكل إيداعاتهم نتيجة تخفيض أسعار الفائدة علي ودائعهم3 مرات خلال فترة زمنية قصيرة حتي أصبح العائد الذي يتقاضونه لا يتماشي مطلقا مع معدلات التضخم في الأسعار. تفاصيل هذا السيناريو وللخروج من هذه الأزمة الحالية ترويها السطور المقبلة. بداية نعرض نماذج لعدد من المودعين وأصحاب المشروعات الصغيرة ممن تعاملوا مع البنوك. محسن عبداللطيف مهندس زراعي وصاحب مشروع لمناحل عسل النحل يؤكد أنه تقدم إلي عدد من البنوك لإقراضه100 ألف جنيه لاعادة تشغيل مشروعه الذي توقف عقب ثورة30 يونيو بسبب فرض حظر التجوال لكن المسئولين في ادارات الائتمان طلبوا منه تجميد ودائع نقدية لمصلحة هذه البنوك علاوة علي طلبهم أصولا عقارية يرهنها لهم فلم يستطع تقديمها ولايزال مشروعه متوقفا. الصندوق الاجتماعي أما أيمن عبدالقادر صاحب مشروع للعاديات والزجاج البيركس, فيروي رحلته الشاقة بين عدد من البنوك التي تردد عليها للحصول علي قرض50 ألف جنيه لشراء خامات للتشغيل منذ توقفه بعد احداث ثورة يناير, حيث توجه في البداية الي الصندوق الاجتماعي فطالبه بالمشاركة في معرض داخل أحد المجمعات الصناعية التي تملكها الحكومة لاصحاب المشروعات الصغيرة لكنه تعذر عليه المشاركة في هذا المعرض بسبب الروتين والمحسوبية. وأضاف أنه ضاعت عليه فرص عديدة للمشاركة بمنتجاته في دبي والبحرين وتونس وإيطاليا, حيث كان يعقد صفقات تصديرية كبيرة كانت ستمكنه من تشغيل عمالة موسمية يصل عددها الي100 عامل. وقال إنه قرر أن يطرق باب الاقتراض من البنوك فطلبت منه ضمانات عديدة لا يقدر علي تدبيرها فاضطر إلي تشوين العدد والماكينات في مخزن وتوقف عن العمل. وطالب الدكتور علي عبدالرحمن محافظ الجيزة بأن يمنحه معرضا داخل أحد المجمعات الصناعية التي توزع علي أصحاب المشروعات الصغيرة. تآكل مدخراتهم ومن أصحاب الايداعات في البنوك يقول سامي عبدالله موظف بالمعاش: إنه أودع مبلغا من حصيلة مكافآة نهاية خدمته في الحكومة بأحد البنوك العامة ليتحصل علي عائد سنوي يساعده في الإنفاق اليومي بجانب معاشه الشهري.. لكنه يفاجأ بين الحين والآخر بتخفيض العائد علي هذه الإيداعات حتي أصبحت الحصيلة لا تتساوي مع الزيادات السعرية في السلع والخدمات, حيث يتعدي معدل التضخم3 مرات أمثال العائد الذي يحصل عليه, وهذا يؤدي إلي تآكل مدخراته. أما كمال سيد محفوظ مهندس بإحدي الشركات الاستثمارية, فيري أن الأوعية الادخارية التي يضع فيها بعض مدخراته لمصلحة ابنائه الثلاثة تتضاءل قيمتها بشكل مستمر أمام ارتفاع أسعار السلع والخدمات وتناقص سعر الفائدة.. لذا فإنه يبحث استثمار هذه الأموال في شراء السلع المعمرة وتخزينها, خاصة أن الذهب والدولا أسعارهما متقلبة ولم تعد صاعدة بل تتعرض لهزات السلبية تؤثر علي حجم الودائع. تراجع أسعار الكوريدور بمواجهة المصرفيين بصرخات هؤلاء قرروا أن غياب المشروعات الجادة والاضطرابات الحالية تجعل البنوك تتوخي الحذر عند منح الائتمان, كما يقول محمود منتصر نائب رئيس البنك الأهلي المصري. وأضاف أن تخفيض سعر الفائدة علي الايداعات والشهادات الادخارية مرجعه قيام البنك المركزي بتخفيض العائد علي الكوريدور للاقراض والايداعات مما يجعل البنوك تضطر إلي تخفيض سعر الفائدة علي الايداعات لانها اذا لم تلجأ إلي ذلك الإجراء فإن تكلفة هذه الايداعات علي البنوك تكون مرتفعة, مؤكدا ان البنوك تضع نصب اعينها دائما البعد الاجتماعي للمودعين, مشيرا إلي تخفيض العائد علي الايداعات يقابله تخفيضا مماثلا علي الاقراض مما يسهم ذلك في تدوير عجلة الإنتاج لان تكلفة التمويل عنصر أساسي في الانتاج وسعر السلعة. وأوضح أن الاستثمار في البنوك يظل الاكثر امانا للقطاع العائلي لذا فإن حركة الايداعات والسحب لن تتأثر بالتخفيضات التي طرأت علي اسعار الايداعات والشهادات الادخارية في البنوك. وعن المعوقات التي تواجه اصحاب المشروعات الصغيرة عند الاقتراض من البنوك, أكد أن لدي البنوك قطاعا متكاملا للتعامل مع هذه المشروعات, حيث بلغت الاستثمارات الموجهة إليه11 مليار جنيه ويستحوذ البنك الأهلي المصري علي60% من القروض الموجهة للمشروعات الصغيرة, مشيرا إلي أن إدارة البنك لا تتعامل مع اصحاب هذه المشروعات بالشروط نفسها التي تتعامل بها مع المشروعات الكبري لكنها تطلب منهم الحد الأدني لهذه الشروط لضمان استمرارية مشروعاتهم وعدم تعثرهم وهذا مرجعه انها مشروعات فردية تدار بمعرفة شخص واحد فقط هو صاحب القرار في إدارتها وليست كيانا إداريا يعمل وفق النظم الإدارية والمحاسبية الحديثة. وبالنسبة لتراجع معدلات الاقراض للمشروعات الكبيرة, قال محمود منتصر: إن ذلك مرجعه الاضطرابات السياسية والأمنية وترقب المستثمرين لهذه الظروف مما أدي إلي غياب المشروعات الجادة. غياب المشروعات الجادة أوضح مصطفي تامر رئيس القطاع القانوني بالبنك الأهلي المتحد, ان تكدس السيولة في خزائن البنوك لا يعني التفريط فيها أو منحها بلا ضوابط حتي لا تتكرر أزمة التعثر التي تعرضت لها البنوك في مطلع الألفية الحالية, مؤكدا أن غياب المشروعات الجادة هو السبب الرئيسي في ضآلة حجم القروض الممنوحة للاستثمار. وأضاف ان قانون البنوك وتعليمات وقرارات البنك المركزي تحظر علي البنوك أن تكون المالك الأوحد في أي مشروع استثماري انتاجي أو خدمي يتم انشاؤه بل لابد أن يكون لها حصة بجانب الشركاء الآخرين حتي لا تضيع اموال المودعين وهو ما تسعي اليه البنوك في التوسع في استثمار ما لديها من سيولة في مشروعات استثمارية, مشيرا إلي أن أموال المودعين محصنة من قبل البنك المركزي حال حدوث اي هزات اقتصادية محلية أو عالمية تتعرض لها البنوك. الاستفتاء علي الدستور أما عمرو طنطاوي مدير عام الفروع ببنك مصر ايران للتنمية, فيقول إن حركة السحب والايداع في الفروع طبيعية بعد تخفيض سعر الفائدة علي الايداعات وانه يتوقع نشاط مكثف للاقبال علي الاقتراض بعد الاستفتاء علي الدستور نتيجة الالتزام بتنفيذ خريطة الطريق في مواعيدها المقررة. ومن قطاع المشروعات الصغيرة, يقول أحمد سالم مشهور الأمين العام للجمعية المصرية لشباب الأعمال: إن البنوك اختصرت الطريق خلال السنوات الأخيرة واختارت الأسهل من خلال تمويل أدوات الدين المحلي مما حرم السوق من القروض الائتمانية فانعكس ذلك علي شرايين الاقتصاد وحجم التشغيل, مشيرا الي ان الخروج من الأزمة الحالية كما فعلت المانيا هو تمويل المشروعات الصغيرة, والمتناهية الصغر لتشغيل العاطلين لتسييل السيولة المحلية المكدسة في الخزائن وزيادة معدلات النمو الاقتصادي, ويشير الي أن الأزمة الكبيرة التي تواجه أمثال هؤلاء المستثمرين هي الضمانات المتعددة والصعبة التي تطالب بها البنوك, حيث تمثل عائقا كبيرا أمام هؤلاء الشباب. استقرار سوق الصرف ومن رجال الأعمال.. طالب الدكتور علاء رضوان رئيس رابطة عضو غرفة الصناعات الغذائية البنوك بالتخفيف من حدة الضمانات التي تطالب بها وان تخفض من سعر المصروفات الإدارية والعمولات وكذا الأسعار علي المنتجات المصرفية الأخري كإصدار خطابات الضمانات وفتح الاعتمادات المستندية وأن تتولي البنوك تغطية هذه الاعتمادات من العملات الأجنبية حتي يمكن القضاء علي السوق الموازية التي يترتب عليها زيادة أسعار الاستيراد. كما طالب البنك المركزي باستخدام الآليات المختلفة للحفاظ علي سعر الصرف لأنه عنصر أساسي لجذب واستقرار الاستثمارات الأجنبية علاوة علي أنه يحافظ أيضا علي استقرار اسعار المواد الغذائية, حيث إن مصر تستورد أكثر من60% من الخامات المستخدمة في هذه الصناعة. هيكلة محفظة القروض من اساتذة الاستثمار يري الدكتور سعيد توفيق استاذ الاستثمار والتمويل بتجارة عين شمس ان الابقاء علي هذه السيولة داخل خزائن البنوك يشكل أزمة أخطر من قضية التعثر ونواب القروض التي أصابت الجهاز المصرفي منذ بضع سنوات, وإذا استمرت الأزمة لفترات طويلة فإنها ستؤثر علي أموال المودعين وأرباح البنوك. ويقترح أن تقوم البنوك بإعادة هيكلة محفظة القروض واختيار القطاعات الاستثمارية التي تتسم بالرواج مثل الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات, والبرمجيات, والنقل والصناعات الغذائية, وضخ الجزء الأكبر من هذه السيولة في شرايين هذه المشروعات مع تقديم تسهيلات ائتمانية لتشجيع المستثمرين للاقتراض والاستثمار في هذه الصناعات. ويفسر الدكتور مصطفي بدرة خبير أسواق المال وأستاذ التمويل أسباب تراكم هذه السيولة بأن الغالبية من المستثمرين خاصة الوطنيين فقدوا الثقة في مناخ الاستثمار بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسية فقاموا بإغلاق أو تصفية مشروعاتهم وبيعها وحولوا قيمتها الي دولارات ثم هربوا للخارج أما المستثمرون المصريون ففضلوا إيداع حصيلة تصفية هذه المشروعات بالعملة المحلية في البنوك كإيداعات عليها عوائد سنوية ضعيفة أفضل من بقاء هذه المشروعات في مهب الاعتصامات العمالية والنهب والتخريب من جانب أنصار الاخوان مما ساعد في ضخامة الايداعات لدي البنوك في وقت أصبحت فيه عمليات الاقتراض شبه متوقفة, خاصة ان معدلات النمو الاقتصادي وصلت الي اقل من2%. وأضاف: البنوك أسهمت في مضاعفة هذه السيولة وتكدسها, حيث شددت من شروط الاقراض بحجة ارتفاع المخاطر نتيجة للاضطرابات الأمنية والسياسية, مشيرا الي أن التحفيزات التمويلية التي تقدمها الحكومة لتحريك الاقتصاد بدأت تتحرك لكن ليس هناك وضوح لهذه التأثيرات الايجابية الا بعد انتهاء مرحلة الاستفتاء علي الدستور واتمام الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لكي يعطي ذلك انطباعا ايجابيا للمستثمرين. وأشار إلي أن انخفاض معدلات الاقتراض من قبل الحكومة لتغطية عجز الموازنة كان يسهم في منع تكدس السيولة بالحجم الحالي حتي أن أكثر من20 بنكا تعمل في السوق المصرفية قد عرضت علي البنك المركزي سيولة محلية تزيد علي76 مليار جنيه لاستخدامها في عمليات الاقراض.