ينبغي ألا يلفتنا المشهد السياسي المصري عن ملف مياه النيل بتفاعلاته مع الأمن القومي المصري, خاصة في ضوء التطورات التي شهدها الملف خلال الأشهر الأخيرة. وابتداء, فلم يكن تحويل النيل الأزرق مستبعدا كإحدي مراحل مشروع سد النهضة الإثيوبي, إلا أن إجراءه دون إخطار دولتي المصب مصر والسودان, وتوقيته عقب القمة الإفريقية الاستثنائية بأديس ابابا للاحتفال باليوبيل الذهبي ليوم إفريقيا, يبعثان بإشارة سياسية واضحة. وتكتمل الصورة بتقرير لجنة الخبراء الثلاثية والتي بدأت اجتماعاتها أوائل العام الماضي, ثم تصديق إثيوبيا علي اتفاقية عنتيبي الإطارية, التي تعارضها مصر والسودان. هندسيا, ثمة تعتيم إثيوبي حول بعض البيانات الفنية للمشروع, وتقديرات أولية بمخاطره علي حصة مصر من مياه النيل( والمعرضة بالأساس لعجز مقداره2.55 مليار متر مكعب بحلول عام2017 حسب بعض التقديرات), فضلا عن انخفاض جودة هذه المياه, وتراجع معدلات توليد الكهرباء من السد العالي, وبالتالي تضرر قطاع الطاقة في مصر وما يرتبط به من خدمات وصناعات, ناهيك عن احتمالات انهيار السد نتيجة انخفاض معامل الأمان الخاص به والعلاقة بين موقعه وحجمه وسعته التخزينية. وبعيدا عن التهوين والتهويل, ففي ضوء الإشارات السياسية والدراسات الفنية, لا مناص من الاعتراف بوجود تهديد للأمن القومي المصري, يستوجب التعاطي معه بنهج متكامل يرقي إلي مستوي الحدث, ويبدأ بتشخيص أبعاد المشكلة ودراسة أسبابها تمهيدا لمعالجتها باستخدام الأدوات الأربع للسياسة العامة للدولة, وهي الأدوات الاقتصادية, والعسكرية والأمنية, والدبلوماسية, والثقافية والإعلامية والشعبية. وابتداء, فقد أفضي غياب المشروع القومي المصري خلال العقود الثلاثة الأخيرة إلي تراجع النموذج المصري الملهم لمحيطه العربي والإفريقي والمتوسطي والإسلامي, رغم بقاء القاهرة بحكم الدور الجيوستوريكي والخبرة الدبلوماسية المتراكمة بوابة عبور للمنطقة. ثم ما لبث الفساد الذي نخر مفاصل الدولة أن أجهز علي معظم مصادر قوتها وعطل أدوات ممارستها للدور, بتعثر الصناعة, وتردي الخدمات الصحية والتعليمية, وارتفاع معدلات البطالة والتضخم. تبع ذلك تراجع القوة الناعمة لمصر, برحيل الرعيل المصري العملاق من القراء والفقهاء والأدباء والفنانين والإعلاميين, ثم تراجعت السياحة نتيجة الانفلات الأمني خلال المرحلة الانتقالية التي تلت ثورة يناير.2011 إذن لم يتبق من أدوات ممارسة الدور سوي الأداة العسكرية والأمنية والأداة الدبلوماسية. أما الأولي فقد قلص انتهاء الحرب الباردة دورها خارج حدود الدول لصالح دور أكبر للتكتلات الكبري, وفي مقدمتها حلف الناتو, وأما الأخري فقد بذلت وسعها لكبح انعكاس تردي الدولة داخليا في تراجع مكانتها خارجيا. وتحملت الدبلوماسية المصرية عبء تعويض ضعف قطاعات أخري بالدولة من أجل الحفاظ علي وضع مصر الدولي كقوة إقليمية فاعلة, وهو ما اصطدم آنذاك بقيادة سياسية, قدمت تنازلات خارجية في سبيل دعم دولي لمخطط التوريث, ومؤسسات ورجال أعمال يتصارعون علي مصالح شتي, إلي أن توالي غضب النيل, بداية باتفاقية عنتيبي في مايو2010 ثم وضع حجر أساس السد الإثيوبي في أبريل2011 وأخيرا تحويل النيل الأزرق في مايو.2013 إذن لا مجال لصب جام الغضب علي مؤسسة بعينها بمعزل عن المشهد العام للدولة, بل الأولي بناء استراتيجية شاملة للتعاطي مع تهديدات الأمن القومي المصري( والأمن المائي والغذائي في مقدمتها) وفق منظورين: أحدهما طويل الأمد لإعادة بناء الدولة المصرية, والآخر قصير الأمد لحل أزمة النيل الراهنة قبل تحولها إلي صراع إقليمي. وحيث لا يتسع المقال لتناول إعادة بناء الدولة المصرية, فإننا نرجئه إلي مقال آخر, بينما يبدأ حل أزمة النيل من الاحتكام إلي القانون الدولي, إذ أثبتت الأزمة عدم جدوي المسار السياسي ما لم يتواز مع مسار قانوني للدفاع عن حقوق مصر النيلية, والقائمة علي أسس راسخة, أهمها مبدأ توارث المعاهدات الدولية ذات الطبيعية العينية أو الإقليمية, مثل معاهدات الحدود والأنهار الدولية, وهو ما أكدته محكمة العدل الدولية في حكمها بين المجر وسلوفاكيا عام1997, بل ذهبت المحكمة إلي اعتبار المادة12 من اتفاقية فيينا لتوارث المعاهدات الدولية لعام1978 بمثابة إحدي قواعد العرف الدولي, وبالتالي فهي ملزمة لجميع الدول. وبناء علي ذلك, تمثل المعاهدات الدولية المنظمة لنهر النيل, وأهمها معاهدات1891 و1902 و1929 و1959, سندا قانونيا مستقرا لحصة مصر من النيل, فضلا عن استناد حقوق مصر المائية أيضا إلي العرف القانوني الدولي المستقر في استخدام الأنهار, والقائم علي مبادئ عدم الإضرار, والحقوق الطبيعية والتاريخية, وحاجات مصر الاقتصادية والاجتماعية, واعتمادها علي مياه النيل, وندرة مواردها المائية, وارتفاع تكلفة البدائل الأخري, وهي الأسس التي أكدتها قواعد هلسنكي عام.1966 وتأسيسا علي ذلك, يمكن علي الصعيد القانوني تطوير مقترح اللجوء إلي التحكيم الدولي لإثناء إثيوبيا عن استكمال السد. وعلي الصعيد الدبلوماسي, ينبغي استئناف مشروعات التعاون مع الأشقاء في حوض النيل مثل قناة جونجلي ودراسة جدوي مشروعات جديدة كربط حوض الكونغو بحوض النيل, وضم السودان وإثيوبيا إلي شبكة الربط الكهربي بين مصر والسعودية, لتوفير الاحتياجات الكهربية دون الحاجة إلي بناء السدود. وعلي الصعيد الوطني, يتعين خوض مجال تحلية مياه البحر لتنويع الموارد المائية, والري بالتنقيط بدلا من الغمر لترشيد استخدام تلك الموارد, مع تشريع قوانين تحظر الغمر وتعاقب المخالفين, وتطوير سياسة زراعية وتجارية لإنتاج المحاصيل ذات القيمة المرتفعة والاستهلاك المحدود للماء, واستيراد المحاصيل التي تحتوي كميات افتراضية من المياه مثل الأرز بدلا من زراعتها. ويتوازي مع ذلك كله ضرورة عدم الوقوع فريسة الاستراتيجية الإسرائيلية شد الأطراف بالاستغراق في أزمة النيل وإهمال التهديدات الأخري للأمن القومي المصري علي بقية الجبهات. كاتب ودبلوماسي مصري لمزيد من مقالات محمد بيلي العليمي