في الوقت الذي كنا نترقب فيه موعد صدور مذكرات روبرت ماكنمارا- صانع الحرب بفيتنام في ستينيات القرن الماضي- رفضت صديقتي الأمريكية أن تشتري الكتاب. فهذا الرجل حسب قولها- يجب ألا يساهم أي إنسان في إضافة دولار واحد إلي دخله. هكذا يعاقب الأمريكيون بعض قادتهم وهو اضعف الإيمان .. لكن هناك قادة لم يعاقبوا حتي الآن. فعلي الرغم من أن ماكنمارا في كتابه الذي يحمل عنوان' بعد المراجعة'(InRetrospect), قدم اعترافا بأخطائه في هذه الحرب الشرسة التي أراد الله أن يدفع ثمنها الأمريكيون مثلما دفع الفيتناميون ثمنا فادحا لها, إلا أن وريل موريس, المخرج الأمريكي, وضعه مرة أخري أمام كاميرات الرأي العام ليعدد للعالم وللقادة الأمريكيين أخطاء هذه المرحلة عل احدهم يتعلم. ورغم الدماء التي سالت من بين أصابع بطل هذا الفيلم الوثائقي, إلا أن المخرج حصل علي جائزة الأوسكار عن هذا الفيلم. ويبدو أن الجائزة أغرته كثيرا فأعاد الكرة في فيلم' حسب الإجراءات المتبعة' وهو فيلم آخر عن تعذيب المعتقلين في' جوانتانمو'..لكن لم يتعلم احد ايضا. ولآن موريس يبحث دائما في دهاليز' فساد الأجهزة العسكرية', فقد كان من الطبيعي أن يصطدم ببطل فيلمه الجديد...'دونالد رامسفيلد', الجنرال الأمريكي الذي ارتكب معظم خطايا أفكار وسياسات المحافظين الجدد تحت ستار حملته العسكرية ضد الإرهاب... والاهم أن تعليماته ووصاياه مازالت قيد التنفيذ حتي الآن. لكن العم دونالد يري أن هذه التعليمات ما هي إلا قطع صغيرة من الثلج التي تتناثر بلونها الأبيض في أرجاء العالم لتصبغه بصبغتها' المنعشة'. فالعم دونالد- وهو اسم التدليل لشخصية محبوبة لدي الأطفال الأمريكيين- لا يري أن هذه الرقائق البيضاء حملت الخراب والدمار إلي أمم وشعوب مازالت تعاني حتي اليوم. يقرأ العم دونالد أوامره وتعليماته- التي وجهها لجنوده حين كان وزيرا للدفاع فترة حكم الرئيس جورج بوش الابن- الذي حارب الإرهاب في الدول الفقيرة فقط... وكانت أوراقه البيضاء هي دليل حسن السير والسلوك لتاريخه الذي امتد من الكونجرس إلي البيت الأبيض ثم البنتاجون. لكن الفيلم الذي امتد لأكثر من مائة دقيقة توثق حياة وأعمال' العم دونالد', لم يستطع, رغم صرخات المخرج الرافضة والمستهجنة أحيانا لما يقوله- نقول لم يستطع- أن يجعل رامسفيلد يقترب حتي من حد المراجعة دون الاعتراف بالخطأ. ويحمل الفيلم اسم مقوله شهيرة لرامسفيلد' المعروف غير معروف', او بالأحري' ما نعرفه ليس المعروف.. والمعروف ليس ما نعرفه...كما أن الغير معروف لا يعني انه معروف...'. هذه الجمل الغريبة كانت إجابة رامسفيلد الشهيرة عندما واجهه أو فاجأه احد الصحفيين بالقول انه لا توجد أية أدلة تربط بين العراق وهجمات سبتمبر أو أن بغداد تملك سلاحا نوويا. ورغم أن إجابة' العم دونالد' لم تقدم ولم تؤخر في عملية اتخاذ قرار الحرب ضد العراق, إلا أنها أصبحت مرتبطة ارتباطا وثيقا بفهم شخصية رامسفيلد. فهذا الرجل يعرف كيف يستخدم اللغة ويدخلها في متاهات ويشير دائما في مؤتمراته الصحفيه إلي القاموس ليشرح مقولاته' الخالدة'! وهو ما دعا المخرج لاستخدام صور لكل قواميس العالم التي من الممكن لها أن تفسر ما قاله' العم دونالد'....لكن يبدو أنها عجزت عن ذلك, فاضطر المخرج للصراخ رافضا لحجج رامسفيلد وهو يقر بأنه لم يكن ليعرف ما حدث في جوانتانامو لأنه لم يزر المعتقل, وبأن الشيء الوحيد الذي فشل فيه هو إقناع الرئيس بوش بقبول استقالته بعد هذه الفضيحة التي أهانت العرب والمسلمين في أنحاء العالم, في الوقت الذي وضعت فيه الأمريكيين أمام أنفسهم ليروا كل أشكال القبح والمرض النفسي لجيش' زعيمة العالم الحر'. هذا النوع من الأمراض النفسية يبدو أنها قد أصابت الجيوش بعد أن أصيب بها قادتها. فطوال هذا الفيلم الوثائقي لن تجد لحظات درامية يستعيد فيها رامسفيلد ذكرياته ويراجع حساباته عله يستفيد أو يستفيد غيره من القادة العسكريين في أمريكا. فالابتسامة لا تفارق شفتيه وكأنها رسمت علي وجهه دون أن يكون لها معني. والمؤكد أن أحدا لا يمكنه مواجهه الحقيقة التي ثبتت بالدليل القاطع ونعرفها الآن, وهي أن العراق لم تملك يوما سلاحا نوويا ولم تكن لتتورط في هجمات ضد أمريكا في الوقت الذي كان فيه صدام حسين يخطب ود الإدارة الجديدة لجورج بوش. لكن رامسفيلد يواجه كل ذلك بابتسامته المطبوعة علي شفتيه قائلا' إن غياب الدليل لا يعني أن هناك دليل علي الغياب'....هذه هي كلماته التي اضطر معها المخرج لوضع معاني الكلمات التي اجترها' العم دونالد' من قاموسه لنعرف معانيها الحقيقية من قاموس اللغات الحية. ورغم ما نعرفه عن غباء الرئيس بوش الذي اصبح نموذجا للتقييم, فانه رفض استقاله رامسفيلد خوفا من أن يفر' العم دونالد' بفعلته ويوقع به, كما كان الحال في موقفه في فضيحة ووترجيت فترة حكم الرئيس ريتشارد نيكسون والتي رقي بعدها من رئيس للأركان إلي وزير للدفاع في رئاسة جيرالد فورد. لقد استطاع دونالد رامسفيلد أن يعمل مع ثلاثة رؤساء بعضهم استمر فترتين في الحكم ولعل هذا ما جعله أهم كثيرا من الرؤساء أنفسهم. لكن استمراره يعني أيضا استمرار نفس السياسات والخطط والتدابير التي اتخذتها حكومات واشنطن من الجمهوريين...لكن الأغرب أن نفس هذه التدابير والتعليمات التي ألقاها العم دونالد في وجهنا- طوال الفيلم- مازالت تحكم واشنطن في عهد الرئيس الديمقراطي باراك اوباما. قد لا يملك رامسفيلد مفاتيح البنتاجون الآن, لكنه يؤكد أن كرات الثلج الصغيرة التي قرأها في الفيلم, والإجراءات التي اتخذها, بل والقوانين التي تحكم الأمريكيين قبل غيرهم- مثل قانون الوطنية- مازالت معمولا بها حتي الآن. فكل شيء كما يراه رامسفيلد,' يدعونا للدهشة عند مراجعته.. ألا ترون ذلك واضحا من أزمة خليج الخنازير إلي هجمات سبتمبر...'. والحقيقة أن ما يدعو للدهشة ولم يتوقف عنده العم دونالد هو ان الرئيس كينيدي الذي رفض الحرب في الأزمة الأولي ووزير دفاعه تيد كينيدي قد اغتيلا... وبقي الرؤساء الذين ارتضوا القتل والدمار وعاثوا في الأرض فسادا لأنهم شاركوا في بيع الإرهاب مع ابتسامات' العم دونالد'.