عاد من مدرسته فتش عنها في معظم أرجاء المنزل قادته قدماه إلي المطبخ فقد اشتم رائحة طهي لذيذة وفريدة يعرفها جيدا نادي عليها بصوت مسموع ردت: تعالي, أنا في المطبخ. ذهب أحمد إلي أمه مبتسما وهو يقول: إيه الحاجات الجميلة دي, ريحة أكلك ناداني من أول ما دخلت ردت هي: مرسي ده بس أنت اللي مجامل, هاه قولي خدتوا إيه في المدرسة النهاردة؟ أحمد: خدنا حاجات كتير بس اللي عجبني درس اللغة العربية كان حول تصريف فعل يحب.. أحب, يحب حبا إلخ فعلا ما أحلي الحب يا أمي. ردت هي: يا ابني الحب ده أجمل شيء في الدنيا, بس إذا الناس فعلا قدرته وعملت بمعانيه.. الحب دلوقتي جاي في الزمن الصعب, عاوز مجهود في التعبير عنه, ومجهود في استمراريته. نظر إليها أحمد في إعجاب, إن أمه بالنسبة إليه هي منبع الحب, هي الملاذ والفهم والعطاء. عندما رحل أبوه وكان في الثامنة من عمره لم يجد أحدا يعني ويحبه ويخاف عليه من الهوي الطاير كما يقولون سوي والدته كان اسمها آمال وكانت بالنسبة إليه هي كل آماله التي يود تحقيقها. كانت هي التي تشجع, هي التي تتفهم, هي التي تؤازره وهي التي تدعو له دائما بالتوفيق والنجاح وتحقيق الآمال. حين يأتيها من المدرسة ابنها الأثير إلي قلبها مخبرا إياها عن تفوقه في المجموع أو في اللغة العربية كانت أمال تحرص علي أن تعد له طبقا من الحلو الذي يحبه, كان الطبق يتكون في معظم الأحيان من الأرز باللبن الذي تضع عليه رائحة جميلة تعرف بالفانليا تترك عبقا في المكان وتتجاوزه إلي المطبخ بأكمله. كانت آمال تتميز بأنها دائما مشرقة متألقة تفوح منها رائحة زكية وكأنها خلاصة الورود الممتزجة بالبرفان والعطر. كان أحمد إذا ما استحضر أمه أو تذكرها في أي وقت فإنما يتذكر رائحتها العطرة أولا ثم يستحضر خصالها الجميلة الأخري. عندما انتقل إلي الجامعة دخل قسم اللغة العربية وتعلم من دروسها أن الشاعر هو الطفل الوحيد الذي يسمح له المجتمع أن يلعب باللغة فيحب, ويحب. كان أحمد سعيدا يأمه سعيدا بجامعته ودروسه سعيدا بأصدقائه. وفي يوم شديد القتامة فقد أحمد والدته الحبيبة إثر إصابتها بنوبة قلبية مباغتة. حزن أحمد عليها كثيرا بكي كثيرا هذه الحزن, كان يفكر في أمه كثيرا والأعجب أنه كان يشم رائحتها الحلوة الجذابة والمتفردة, في دخوله وخروجه وفي أرجاء المنزل وأنحائه. وتذكر رائحة قميص سيدنا يوسف وأبوه اسحق يبني عليها المعجزة بكل المقاييس. أشار عليه أصدقاؤه وبعض أقاربه بالزواج, فهو في وحدته سيكون نهبا للقلق والحزن, لكن أحمد لم ينجح في أن يعثر علي شريكة العمر التي يسكن إليها. عندما كانوا يسألونه عن سبب عزوفه عن الزواج كل هذا الوقت كان يجيب بأنه وجد أن فلانة صوتها عال في الحديث وأن أخري كان حديثها تافها وأن الثالثة كانت ذات ضحكة عالية متقطعة مما يعتبره غير لائق. كانت الأسئلة دائما كثيرة وكانت أجوبة أحمد دائما أكثر لم يكن ليعرف أنه لن يتزوج إلا لأنه لم يجد في أي امرأة قابلها حضن أمه الدافئ المبطن بالورود والمسك والرائحة الزكية تلك التي تختصر في نظرة كل أسرار المرأة الجميلة. وفي يوم عصفت به المشاعر والذكريات فقام إلي مكتبه ليخرج علبة أنيقة من القطيفة فتحها ليجد منديلا حريرا جميلا يخص أمه كان قد احتفظ به من رائحتها احتوي المنديل بين يديه قربه إلي أنفه داعبته رائحة تختصر كل بساتين العالم. وسط دموعه قرأ لها الفاتحة.