من قلب ميدان رابعة العدوية بشرق القاهرة حيث يعتصم مؤيدو الرئيس المعزول, تحدث القيادي بجماعة الإخوان المسلمين مخاطبا المحتشدين, مؤكدا أن ما يجري في سيناء يمكن أن يتوقف فور تراجع الجيش عما أسماه ب( الانقلاب علي الشرعية) وعودة الرئيس السابق إلي موقعه في الحكم. هذا الحديث يتضمن رسالتين متناقضتين: الأولي أن جماعة الإخوان هي من يقف وراء تلك الموجة الإرهابية, التي لن تتوقف, حسب د.محمد البلتاجي, إلا بإعادة عقارب الساعة إلي الوراء.والثانية أن المصريين يدفعون الآن ثمنا فادحا ل( انقلاب عسكري), كان يمكن تجنبه لو أنه لم يقع أو أنهم تمسكوا بعودة الرئيس( الشرعي). الرسالة الأولي تبدو صحيحة تماما, فالجماعة التي احتضنت,بعد نشأتها بقليل,جهازا سريا لم يكن سوي ميليشيا مسلحة للقتل والاغتيال, وتمخض عن انشقاقاتها المتكررة جماعات عنف مارست الإرهاب, وقضت ثلاثة أرباع عمرها في العمل غير الشرعي تحت الأرض, وحتي عندما تهيأ لها حكم مصر أبت أن تعمل في النور وبالقانون وكأنها تعشق الظلام.. هذه الجماعة ليس غريبا عليها أن تدعم الإرهاب بسيناء أوغيرها من بقاع الوطن الغالي التي جعلته مجرد رهينة لها: فإما أن تحكمه قهرا وقسرا, وإما تشعل فيه النيران أرضا وشعبا, وكأننا إزاء منطق القوة الإسرائيلي في مواجهة الشعب الفلسطيني. بل إن نظام حكم الجماعة نفسه قد رعي التطرف ونافق الإرهاب خصوصا السلفيين الجهاديين وامتداداتهم بين سيناء وغزة,بدليل تلك الرسائل التي وجهها الرئيس محمد مرسي بمجرد وصوله للسلطة, إلي المنتمين للجماعات الجهادية, عندما أخرج بعض منتسبيها من السجون بعفو رئاسي, ولمجرد أن من قام بسجنهم هو النظام السابق, وكأن الإرهاب مجرم في عصر, وجائز في عصر آخر.وكذلك الوقائع التي وشت بتواطئه مع الإرهابيين والمتعلقة باغتيال العسكريين الستة عشر قبل نحو العام, واختطاف الجنود السبعة قبل نحو الشهر, وذلك عندما عطل العملية نسر ورفض حصارهم, كما تجاهل إعلان نتائج التحقيقات معهم,نتيجة لشعوره برابطة فكرية معهم, وتراث نضالي مشترك بينهم, واجهوا علي أساسه الدولة المصرية, التي ظلوا يشعرون بالغربة إزاء تمدينها العريق والاغتراب عن تدينها العميق, في كل عصورها سواء الملكية أو الجمهورية, وإلي الدرجة التي جلس معها طارق الزمر, قاتل الرئيس الراحل أنور السادات, في مقعد أمامي بقاعة الاحتفال بذكري انتصار أكتوبر العظيم, فيما غاب عنه أبطال كثيرون من صناعه, ما كان يمثل انقلابا كاملا في تعريف ماهية النصر وماهية الهزيمة, ومن هم أبناء الوطنية المصرية ومن هم خصومها. أما الرسالة الثانية فخاطئة تماما, لأن مواجهة مصر للإرهاب كانت حتمية, بعد أن تسلل إليها في ثيابهم, ولم يكن للثلاثين من يونيو من دور سوي التعجيل بها إلي اليوم بدلا من الانتظار للغد, وهو أمر إيجابي لأن ثمن المواجهة كان يزداد تعاظما كلما تأخرت, حتي لو استمر نظام جماعة الإخوان في الحكم. ففي كل لحظة كان جهاديو سيناء يزدادون عددا وشوكة, واللحظة التي كانوا سيشعرون فيها بالثقة هي نفسها التي كانوا سيفصحون فيها عن رغبتهم الحقيقية في الاستقلال بإمارة سيناء الإسلامية, كي يمارسوا فيها تطرفهم الأصلي, لأن تطرف الإخوان في القاهرة لا يشبع نهمهم, ومرسي نفسه لا يلبي طموحاتهم إلي الحاكمية الإلهية علي الطريقة الطالبانية, وعندها فقط ربما اضطر الإخوان لمحاربتهم ولكن بثمن فادح من دماء المصريين. يعني ذلك أن مصر كانت تعاني الإرهاب فعلا في ظل الحكم الإخواني, ولم تواجهه بعد رحيلهم, أو بسبب الثورة عليهم, غير أنها كانت تتعايش معه, تعانقه وتسايره. ثم صارت تتحداه وتواجهه. كانت مصر مريضة بالإرهاب فعلا, ولكنها لم تكن قد اكتشفت المرض بعد أو بدأت رحلة العلاج. الآن اكتشفت مرضها, أجادت تشخيصه, وبدأت رحلة العلاج منه.. في وجودهم كان ثمة إنكار للمرض يؤدي إلي التعمية المؤقتة علي أعراضه, وهي حال تضلل المريض, فإذا ما استعاد صحوه وجد نفسه مشرفا علي الموت,وبعد رحيلهم صار هناك شعور واقعي بالمرض, وتعامل إيجابي معه يؤدي للشفاء منه, ولو بعد وقت. باختصار كان بمصر نظام يحتضن الإرهاب, ويتعايش معه. والآن أصبحت مصر دولة تتحدي الإرهاب بدلا من الارتماء في أحضانه, وتلك هي بداية الخلاص منه.. قد تحدث عملية إرهابية كبيرة يهلل لها المتطرفون أياما, وقد تتسع رقعة المواجهة لتمتد إلي بعض البؤر خارج سيناء وعندها سوف تنتعش أحلامهم, ويعلوصوتهم, ظنا بأنهم علي وشك النصر.. وقد تأتي لحظة يشعر فيها رجالنا البواسل في الجيش والشرطة بقدر من الإرهاق, أو يشعر شرفاء الوطن وعاشقوه المنثورون علي مدد الشوف, بدرجة من اليأس,غير أن تلك اللحظة نفسها هي لحظة انجلاء الغمة, وانكسار المحنة. ستنتصر مصر حتما, رغم وعورة المعركة في سيناء وفي غيرها من أرجاء, علي ذلك الشر الذي كثيرا واجهها من قبل, لأنها تعرف أدواته ووسائله.. سينتصر الجيش لأنه يحارب بإرادة وطن وروح شعب, وقيم العصر. وستهزم الجماعة لأنها تحارب بأنانية قبلية وروح تنظيم, ضد وطن أكبر وشعب أرقي وعصر يتجاوز كثيرا إدراكها.. ستنتصر الدولة لأنها عادت للعمل بكل قوتها, وبأقصي درجات التناغم بين مكوناتها: جيش وشرطة وشعب, منذ استمعت لخطاب الرئيس المعزول العبثي مساء26 يونيو, وأدركت بقرون استشعارها الظاهرة, وبحدوس ضميرها الخفية, إنها إزاء رجل فقد الإحساس بالواقع من حوله. لقد عادت أجهزة الدولة التي كان قد تم تعطيلها للعمل مثل قلب مريض كان توقف نتيجة الوهن, ثم عاد للعمل بعد استفاقة كبري, وبعد أن تخلص من قيوده, وأدرك طبيعة العدو الذي يحاربه, والمجال الذي يتحرك فيه, والأرض التي يقف عليها. ولهذا ستنتصر الدولة علي مرضها, وسيذهب الإرهاب إلي متاهة النسيان, لأن صيحته هذه ليست مجرد دورة عادية يعقبها أخري كما كان الأمر في ظل المعركة بين الإرهاب والاستبداد القديم في الثمانينيات والتسعينيات, بل هي حمي شديدة وصحوة أخيرة, يعقبها الموت, لأن معركة اليوم بين الإرهاب والحرية, حرية المصريين الجدد علي قاعدة إيمانهم العميق وتمدينهم العريق. لمزيد من مقالات صلاح سالم