نجح الشعب المصري بثورته التاريخية الممتدة من يناير2011 إلي يوليو2013 أن ينقذ بلادنا من نظام سياسي مستبد قائم علي التمييز بين المواطنين علي أساس الجنس والدين والطبقة والعرق والمذهب, استخدم الرصاص وسلاح الدين للتخويف والتهديد لكل من يختلف معه. نجحت الثورة سياسيا, ووضعت خارطة طريق مرحلية في حاجة الي تطوير دائم لتواكب أهداف الثورة, وقد تعلمنا من دروس الماضي أن الثورة السياسية لاتحقق أهدافها دون ثورة في الثقافة والتعليم والتربية والقيم, بحيث نخرج من عصور الظلام والتعصب الديني والجنسي والطبقي, الي عصر المعرفة والمساواة والعلم. الثورة تعني سقوط النظام الحاكم وليس رأسه فقط( مبارك أو مرسي), وهذا يعني سقوط الدستور القديم, مطلوب العمل من الآن لتشكيل لجنة شعبية ثورية من الشباب والنساء والرجال, المسلمين والمسيحيين, لكتابة دستور جديد يحقق الحرية والعدالة والكرامة والمساواة الكاملة بين المواطنين جميعا, وعلي رأسها المساواة بين النساء والرجال في قوانين الدولة والأسرة. لقد دفعت المرأة المصرية من دمها وحياتها ثمن الثورة مثل الرجل المصري, لهذا يجب النص في الدستور الجديد علي المساواة الكاملة بين النساء والرجال في الحياة العامة والخاصة, لذلك مطلوب إشراك النساء والشابات في كل لجنة ومجلس بنسبة لا تقل عن30 في المائة وقد تزيد, لا يكفي إصدار إعلان دستوري أو عمل إصلاحات لبعض مواد الدستور القديم. نحن نعيش الشرعية الثورية وهي لا تعرف الإصلاحات الجزئية بل تنشد التغيير الجذري, يعني بناء نظام جديد, مؤسسات دولة جديدة, تشريعية وتنفيذية وقضائية تخدم الشعب, وليس الحاكم الجالس علي العرش. خسرنا( بعد ثورة يناير) معركة الدستور أولا بسبب سيطرة الاخوان المسلمين وأتباعهم من الأحزاب القديمة والجديدة, ورغبتهم في فرض الانتخابات بالقوة والمراوغة. هناك اتجاه اليوم, كما حدث في الماضي القريب,( من جانب الأحزاب المدنية والدينية السلفية) للتضحية بحقوق النساء بطريقة هادئة ناعمة, وابعادهن عن مراكز القرار تحت اسم التوافق الوطني, قد يسمحون لامرأة واحدة أو اثنتين( مجرد عينة) لتمثيل النساء, وهذا اهدار لحق نصف المجتمع(45 مليون امرأة) من أن يشاركن بتمثيل عادل يتناسب مع قوتهن العددية والفكرية في بناء مصر المستقبل. وبالطبع تحاول قوي الثورة المضادة في الخارج والداخل إجهاض ثورة يونيو2013, كما حدث منذ سقوط حكم مبارك في11 فبراير2011, نلاحظ كيف حاولت الحكومة الأمريكية التمسك بحكم الاخوان المسلمين تحت اسم شرعية الصندوق, وهددت بقطع المعونة, وتجاهلت الشرعية الثورية التي فرضتها إرادة الشعب المصري الحي المتحرك في الشارع, هكذا تعودت الحكومة الأمريكية منذ عصر السادات في السبعينيات( بداية المعونة الأمريكية لمصر) أن تنظر الي الشعب المصري كأنه مستعمرة مستعبدة خاضعة مع رئيسها وحكومتها لأوامر البيت الأبيض, رغم أن هذه المعونة كانت تخدم المصالح الأمريكية وليس المصالح المصرية. هذه الثورة الشعبية الهائلة قادرة علي تحرير مصر من المعونات الخارجية ومنها المعونة الأمريكية, تحرير مصر من مفاهيم الاستعمار القديم والجديد, ومن القوي المهيمنة عالميا وعربيا ومحليا, هذه الثورة منذ30 يونيو تقول ان الشعب المصري قادر علي إنتاج فكره وابداعه وعلمه وطعامه وملابسه وكل ما يريد, لكنه أجبر منذ حكم السادات علي أن يعيش علي الاستيراد من الخارج, وليس علي الإنتاج المصري الزراعي والصناعي والفكري والثقافي والتعليمي والاعلامي. أصبح الاعلام المصري تابعا للإعلام الأمريكي, وأصبح باراك أوباما يرسل الينا مبعوثا كي يطور التعليم في مصر. أنفقت حكومة باراك أوباما ملايين الدولارات لتدعم حكم الاخوان في مصر, وقد سقط حكمهم بقوة الشعب المصري ضد الإرادة الأمريكية والارادات التابعة لها, وسوف يسقط الفكر الإخواني في العالم كله, مع تنظيماتهم وفروعهم التي امتدت من التنظيم الأم في مصر. هدف أمريكا هو حماية مصالح اسرائيل وتقويتها علميا واقتصاديا ونوويا ضد بلادنا, فهل يصدق أحد أن أمريكا تريد تقوية مصر علميا وتعليميا أو عسكريا أو اقتصاديا؟ تم التعاون بين الاستعمار الأمريكي الاسرائيلي والحكومات المصرية علي مدي العقود الأربعة الماضية, من أجل تقسيم الشعب المصري طائفيا وتحجيب عقله وتغييبه( ليسهل السيطرة عليه) تخويفه من نار الجحيم وعذاب القبر, ومحاربة العقول المصرية المفكرة, ومصادرة أعمالها, وخنق صوتها, وتقديمها للمحاكمات( قانون الحسبة) بتهمة الكفر وازدراء الذات الإلهية أو الذات الجمهورية, مات بعض هؤلاء المبدعين من الرجال والنساء( جسديا أو معنويا) في المنفي خارج الوطن أو داخله, وتم تشويه سمعتهم واقصاؤهم من الساحة الثقافية والأدبية والفكرية علي مدي اربعين عاما وأكثر. نحن في حاجة الي ثورة فكرية ثقافية اجتماعية تعليمية تربوية تواكب الثورة السياسية, نريد تغيير القيم والمفاهيم القديمة القائمة علي الخضوع والطاعة والفزع من العقل النقدي المبدع, تعلمنا من التاريخ أن الثورة السياسية سرعان ما تجهض, إن لم تدعمها ثورة في الثقافة والتعليم والتعليم وبناء عقل شجاع جديد. نريد تشكيل لجنة من عقول مصر المبدعة القادرة علي وضع دستور جديد, فالدستور هو أساس الدولة, هو الحصان الذي يجر العربة,والعقول في القانون والسياسة مع العقول في الفلسفة والتاريخ والاجتماع والأدب والفن والموسيقي. وضع الدستور الجديد ليس عملية قانونية فحسب, بل يشمل جوانب العقل والتفكير والشعور والخيال والابداع. لمزيد من مقالات د.نوال السعداوى