امتلأت الميادين في ربوع مصر بين مؤيد ومعارض, وانقسم الرأي العام بين مطالب بانتخابات رئاسية ومدافع عن الشرعية. وسادت حالة من الانقسام الحاد لم يعرفها المجتمع المصري من قبل. علماء الدين يؤكدون أن العلاقة بين الحاكم والمحكومين ينظمها عقد شرعي, وليست عقدا أبديا, وان نزول الحاكم علي مطالب المحكومين ضرورة شرعية حقنا للدماء وحفاظا علي أمن واستقرار المجتمع, ولكنهم في كل الأحوال يطالبون الجميع بالحفاظ علي مقدرات الوطن والجلوس إلي مائدة الحوار. ويؤكد الدكتور محمد الشحات الجندي, أستاذ الشريعة وعضو مجمع البحوث الإسلامية, حق الجماهير أن تسائل الحاكم وتحاسبه, علي أساس أن هناك عقدا بين الحاكم والمحكومين, فإذا التزم الحاكم بتنفيذ إرادة المحكومين وحقق المصلحة العامة وسير أمور الرعية وفقا لما يتحقق به مصالح الناس, وتيسير سبل معايشهم والوفاء باحتياجاتهم, فإنه يكون في هذه الحالة قد أوفي بواجبه تجاههم وفقا لحديث الرسول صلي الله عليه وسلم كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته, فالحاكم راع ومسئول عن رعيته... الخ, وبموجب ذلك فإن من حق المحكومين أن يراقبوا تصرفات الحاكم ويحاسبوه عن هذه التصرفات, لأن الحاكم إذا كان من حقه أن يمارس سلطة علي الرعية ويجب عليهم طاعته, فإنه في المقابل من حق الرعية محاسبته وتقويمه. دفع الضرر عن الرعية وأضاف الدكتور الشحات الجندي قائلا: إذا لم يلتزم الحاكم بدفع الضرر عن الرعية ولم يحقق مصالحهم المشروعة مثل تحسين مستويات المعيشة وتحقيق الأمن والسلام الاجتماعي والنهوض بمتطلبات الرعية ومنع كل ما يضر بهم ولم يقم بإشراك الرعية في إدارة شئون الحكم, فإنه يكون قد أخل بواجب شرعي, وذلك لقول الله تعالي-: وشاورهم في الأمر وقوله أيضا وأمرهم شوري بينهم مما يستوجب مشاورة الرعية وحقهم في التعبير عن أرائهم وعن تدبير شئون حياتهم مصداقا للحديث الشريف: الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله؟ قال لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم لذلك فإن إقصاء الحاكم لقطاع كبير من الرعية وانحيازه لفئة أو جماعة بعينها يكون مستوجبا لنصيحته ولفت انتباهه إلي حقهم في ممارسة دورهم في شئون المجتمع فإذا لم يستجب لمطالبهم ولم يعر اهتماما بمصالحهم مما ترتب عليه إلحاق الضرر بهم وثبت عدم اكتراثه باحتياجاتهم وضروريات حياتهم, فإنه يجوز لهم أن يطلبوا منه التنحي عن السلطة بمن هو أجدر وأكفأ علي تحقيق مصالحهم علي أن يتم ذلك بطريقة لا تؤدي إلي إراقة الدماء, وإتلاف الممتلكات, وتخريب المنشآت عامة أو خاصة, تطبيقا للقاعدة الشرعية:ارتكاب أخف الضررين وأهون الشرين والمهم أن يتحقق ذلك بطريقة سلمية, وبما يمكن معه تغيير الحاكم بطريقة آمنة لا تلحق الضرر بالبلاد والعباد. وأكد الدكتور الشحات الجندي, أن الحاكم يجب أن يلتزم بتحقيق المطالب المشروعة التي يعود أثرها بالخير والمصلحة علي المجتمع. الشعب مصدر السلطات ويقول الدكتور عبد الوارث عثمان, أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر, أنه من المعلوم إسلاميا أن الشعب هو مصدر السلطة وهو الذي يختار حاكمه فعلي الرغم من أن الرسول صلي الله عليه وسلم وهو الحاكم الأول للأمة قد توفي وليست له إلا وصايا كان قد عرفها بعض الصحابة وجهلها البعض الآخر, فكانت بمثابة ومضات تهدي الصحابة إلي اختيار الخليفة الأول أبو بكر الصديق وهي الفيصل في اختياره, كان هو وجموع الصحابة رضي الله عنهم وكان من بعده عمر الذي جاء بإرادة الصحابة واختيارهم ومع ذلك كان يناقش في أحكامه, ويتحاورون معه في قراراته, والدليل علي ذلك أنه أراد يوما أن يحدد مهور الزوجات بعدما تغالت الناس فيها فوقفت امرأة وعارضته في ذلك وردت عليه قراره فقالت له يا عمر أتريد أن تحدد ما جعله الله عاما, وقد قال الله تعالي: وإن آتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا... فرجع عمر إلي الصواب وقال: كل الناس تفقهت في الدين حتي النساء, إلا عمر, يا ليت أم عمر ما ولدت عمر, وهذا هو المثال الأكبر في جواز تصويب أخطاء الحاكم, وليس له طاعة مطلقة, وإنما الطاعة في الصواب دون الخطأ, فهو الذي قال أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإن عصيته فقوموني بسيوفكم بل أن الرسول صلي الله عليه وسلم- قالها واضحة جلية لا تخفي علي أحد: إن الطاعة في المعروف فمن عصي الله فلا سمع له ولا طاعة, والحاكمية في الإسلام ليست علي سبيل أن يكون الحكم مؤبدا, لأن الإسلام نهي عن ذلك فالقاعدة الحاكمية لا تؤبد في الإسلام حتي لا تتعارض مع حاكمية الله في الأرض, إذن الحاكم في الأرض هو حاكم مؤقت, يحكم بعقد مؤقت بينه وبين المحكومين. ويؤكد الدكتور عبدالوارث أن شروط هذا العقد هو طاعة الحاكم لله تعالي وسهره من أجل تحقيق المصلحة العامة وإلا فغيره أولي, فالأساس في وجود الحاكم في الدولة الإسلامية هو مصلحة الناس, فإن عمل علي مصلحة الناس, وتحقيق منافعهم العامة, فإن عقده سار, فإن أخل بتلك الشروط وانفرط عقده, أصبح العقد مفسوخا من تلقاء نفسه, والحاكم الذي يراعي الله ويراقبه لا يجد غضاضة في الرجوع عن قراره, بل وتخليه عن مكانته في سبيل المصلحة العامة وحقنا لدماء المسلمين. لا للفوضي أما الدكتور جعفر عبدالسلام أستاذ القانون الدولي بجامعة الأزهر, فله رأي مخالف, ويقول: أن الشعب حينما يقول للرئيس: أرحل.. ثم يرحل فهذه مسألة فوضوية, ويجب إتباع أحكام القانون في تقرير مسئولية الرئيس, لأننا نعيش في دولة بها دستور فهذه ليست طريقة نعامل بها من جاء عن طريق الانتخابات, أما فيما يتصل بمدة الحاكم فهي مسألة يحددها دستور كل دولة, وعندنا أربع سنوات, من الناحية الدستورية, لا يجوز أن ينحي الرئيس قبل هذه المدة, لكن الفقه الدستوري, وكذلك الفقه الإسلامي يعترف بوجوب حق الشعب في مقاومة الحاكم الجائر إذا خرج علي مقتضيات الدستور أو القانون, فإن من حق الشعب أن يقاومه, وأساس هذا في الفقه الإسلامي ما حدث عندما ولي أبو بكر وعمر حيث قال أبو بكر: إنما وليت عليكم ولست بخيركم, فإن وجدتم في اعوجاجا فقوموني, فقام إليه نفر من المسلمين, وقال يا أمير المؤمنين والله لو وجدنا اعوجاجا لقومناك بسيوفنا, فسكت المسلمون ولم يعترض أحد واتخذ بشأن ذلك قاعدة فقهية تقول: من حق المسلمين مقاومة الحاكم الجائر وهناك قاعدة تقول: ليس سلطان الحاكم مطلقا, وإنما هو مقيد بقيود الشريعة, ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق, ولفقه السياسة الشرعية شروح طويلة في هذا الشأن حول: ما هو الخروج الذي يعطي للمحكومين حق الخروج علي الحاكم.. وهل يشترط الكفر؟ أم عدم أداء العبادات؟, فهناك أقوال فقهية كثيرة في هذا الشأن إذن من الناحية الدستورية فإن الدساتير تقر مسئولية الحاكم إذا ما خالف الدستور أو القانون الذي يقسم علي احترامه, وذلك أثناء توليه الحكم, فإذا خالف النصوص, فإن الدساتير عادة تجد لمحاسبته قرارا كما كان علي سبيل المثال في قرار الاتهام بجريمة الخيانة العظمي فكان يجب أن يكون الاتهام فيها من قبل ثلث أعضاء مجلس النواب, وتشكل محكمة خاصة نص عليها الدستور لمحاكمة الرئيس, كما أن هناك مسئولية سياسية للرئيس يمكن لمجلس النواب أن يحاسبه عليها في حالة انتهاك سياسات تخالف سياسة الدولة, أو تؤثر علي أمن وسياسة البلاد, فيستطيع مجلس النواب أن يحاسبه سياسيا ويجبره علي تقديم الاستقالة, لكن دولة بها دستور فلا توجد طريقة أن يقول له الشعب ارحل فيرحل ولذلك يجب اتباع أحكام القانون في تقرير مسئولية الرئيس, الضوابط الشرعية للثورات ويؤكد الدكتور جعفر عبد السلام, أن ما يسمي الشرعية الثورية والتي ليس لها ضوابط قانونية, فهي تعني أن يقوم الشعب بالثورة علي الحاكم والثورات بطبيعتها لا تخضع للدساتير أو القوانين كما حدث معنا يوم25 يناير فهي كانت ثورة, إنما نحن الآن في ظل نظام دستوري وقانوني قائم يجب تفعيله, لأننا نتمسك بالشرعية الدستورية وليست الشرعية الثورية.