لا ادري من الذي اخرج قنينتك, كي يمسح عليها ويوزع الأقداح بلا خجل, وكأنه يريد ان يذيق الأجيال الجديدة بعض المرارات التي تجرعناها.. صورة جنود مصريين وقد عصبت عيونهم بشكل مذل مهين. من الواضح أن كأس السلطة تطيح بالرءوس, وتزيغ العيون.. حين يدوس هؤلاء الذين اسكرتهم كؤوس العناد والكبر علي أحلام الفقراء والثوار, وينتهكون بكارة ميادين الثورة كي ينزعوا منها أزهارها المتفتحة ويرموها في أقبية الزنازين. كيف تجرءوا علي اعادة سكب أسوأ خمور الهزيمة في شرايين شعب قرر ان ينفي الهزيمة من ارضه وان يمسحها من قاموسه؟. هل يمكن ان تكون هزيمتنا مرة اخري فوق رمال سيناء؟ أبدا لن انسي ذلك الشهر الحزين من صيف عام..1967 أبدا لن اغفر لمن مزقوا أحلام شبابي الوردية, وفتحوا الجرح الذي لم يندمل.. ابدا سيبقي هذا التاريخ الحزين في أقبية الذاكرة المظلمة الباردة, الما طازجا يتجدد كلما استدعته الحادثات ومجريات الأيام. كنا جيلا من الأبرياء الأنقياء, اطفالا كنا في بدايات البدايات, نعبث في رمال أيامنا كي نبني قصورا ملونة, مواكبا نمشي كي نهتف باسم القومية, باسم العامل والفلاح, بالفن الخالد, بجمال عقولنا البكر تلتقط وبخصوبة افكار الحرية والعدالة, ترسم صورة حب دولي شامل, تحمل نصرا للبشرية علي الطغيان وفلول قطعان الاستعمار, كنا مملوئين بيقين نبوي ان الغد غدنا, ونري مصر عروسا تزف الي التقدم والرخاء. صباح يوم5 يونيو1967, كنت ورفاقي نصطف بزي الفتوة العسكري في ملعب كرة القدم الملحق بالمدرسة الثانوية, وأمامنا احد ضباط القوات المسلحة واسمه الرائد يحيي, الذي كان يلقي علينا الأوامر الصباحية حين فوجئنا بصراخ وهتاف يأتينا من المنازل المجاورة للمدرسة, بينما رجل يقفزفي إحدي النوافذ وهو يجلجل بصوته: أسقطنا مائة طائرة للعدو. وفي يوم9 يونيو1967 كنت مع عائلتي ننتظر الخطاب الذي اعلن ان الرئيس عبد الناصر سوف يلقيه.. ومنذ اللمحة الاولي التي ظهر فيها وجه عبدالناصر علي شاشة التليفزيون, ادركت اننا في محنة, خاصة عندما نظرت الي عينيه, خبي البريق فيهما, بريق الحماس والثقة التي اعتدنا عليها.. ولا أدري كيف تابعت الخطاب حتي نهايته, ولكنني اتذكر بشدة لحظة النهاية, فقد افقت علي صريخ وعويل, ووجدت نفسي اتجه صامتا الي حجرتي حيث انتزعت صورة كبيرة للزعيم كنت اعلقها علي الجدار, وحملتها نازلا الي الشارع حيث وجدت الملايين قد سبقتني اليه وهي تهتف بصوت واحد, شعار واحد لم يؤلفه احد, ولم يلقنه احد, مجرد كلمة واحدة: هانحارب, تتكرر في هدير طاغ, وكأنها تريد بوعي أو بغير وعي ان تعلو فوق اصوات انفجارات قذائف المدافع المضادة للطائرات التي توالت في نفس الوقت, كانها رسالة مختصرة من شعب مصر الي كل من يهمه الأمر, مفادها ان هذا الشعب لن ينهزم. منذ ذلك التاريخ البعيد, مرت تحت الجسور مياه كثيرة, الا ان أوراقي كانت تحمل دائما وقفة للتذكر والتدبر كلما حل شهر يونيو, ولعل ذلك كان خلف اصراري في قراءة ملايين السطور والتفتيش عبر وثائق كثيرة أتيحت لي كي افهم, فربما وجدت للجرح القديم رتقا, ولعل ذلك ايضا كان خلف سلسلة المقالات التي نشرتها متتالية في مجلة الدبلوماسي تحت عنوان: وثائق أمريكية عن النكسة, ورغم انه كان لي شرف المشاركة ضمن قوات الصاعقة المصرية في نصر اكتوبر المجيد, ورغم وسام الشجاعة من الطبقة الاولي الذي يزين صدري, فلا أزال حتي اليوم احرص علي زيارة هذا القبو المظلم, أحاول بمصباحي الخافت ان اضئ بعض جوانبه الغامضة, وربما هو نوع من الإدمان لهذا الحزن المعتق, ولكنه بالتأكيد ايضا جهد واع يهدف الي نقل صورة حية لمشاهد فترة من فترات الانكسار, حتي لا تسقط من ذاكرة الأمة, وتظل درسا ونبراسا, درس لا تنقطع فائدته, ونبراسا يؤكد مقدرة هذا الشعب العظيم علي تجاوز اقصي المحن والأحزان, وان إرادة الانتصار تحقق المعجزات. يونيو.. أيها الدن الذي يحمل اشد الخمور مرارة.. سيظل مذاقك في حلقي, ولسوف اواظب علي زيارة قبوك المظلم الرطب العفن, ليس حبا فيك او رغبة في ملء كأس الأحزان, وانما لانك كنت القاتل الذي اغتال سنوات عمري الذهبية, وقد قررت مطاردتك الي آخر العمر حتي لا أتيح لك مرة اخري ان تغتال البراءة فوق ارضنا الطاهرة, وعلي أية حال فإن قليل من خمرك المعتق قد يصلح بعض العقول التائهة. أما أنت يا مصر, يا وردة الصبا الفائحة, فمازلت أري بريقك القديم, ولن اعترف ابدا بتلك الصورة الشائخة التي صرت عليها, فمازالت صورتك الدافقة دافئة, تحكي عن الوطن والامل ويقين النصر وحلم الغد الطموح, وسوف يضع الأحفاد الزهور علي ترابنا, ويواصلون الطريق الذي اختطف في صيف..1967 فسلامي لهم, ولكل الرفاق الذين احبوا هذا التراب المقدس الي درجة التوحد فيه. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق