يبدو أننا نعيش أزهي عصور الفيزياء, فبينما العلماء مازالوا منشغلين بالنتائج التي أعلنتها معامل سيرن بعد إتمام تجارب المصادم الهادروني الكبير والتي كشفت عن جسيم هيجز بوزون حتي نشرت وكالة الفضاء الأوروبية مؤخرا أقدم صورة للكون بعد إتمام تحليل بعض البيانات التي تم التوصل إليها عبر مشروع بلانك الفضائي. وكما هو معروف فإن مشروع بلانك عبارة عن مركبة فضاء أطلقتها الوكالة الأوروبية للكشف عن بعض الجوانب الغامضة من الكون الذي نعيش فيه, ومن أهم النتائج التي تم الإعلان عنها حتي الآن أن عمر الكون يقدر بحوالي13.82 مليار سنة, وهذا يزيد بعشرات الملايين من السنين عما كان معلوما. أيضا كشفت النتائج أن الكون ينقسم إلي مادة ذرية عادية والتي تشمل كل النجوم والكواكب وجميعها تمثل4.6 % من مكونات الكون بينما يوجد24 % فيما يسمي بالمادة الغامضة أو المادة المظلمة وهي مادة لا يمكن رؤيتها بشكل مباشر باستخدامالتلسكوبات, حيث من الواضح أنها لا تبعث ولا تمتص الضوءأو أيإشعاع كهرومغناطيسيآخر, إلا أنها موجودة ويستدل علي ذلك من آثار الجاذبية التي تمارسها المادة الغامضة علي المادة المرئية. أما نسبة71.4 % المتبقية من الكون فهي عبارة عما أطلق عليه العلماء بالطاقة الغامضة. وبالتالي فإن ما نستطيع وصفه عن طريق قوانين الفيزياء المعروفة لا يصف إلا جزءا قليلا جدا من محتويات الكون, بينما تظل معظم المادة و الطاقة الكونية تمثل تحديا لعلماء الفيزياء النظرية. فهل سيستطيع العقل البشري الذي وضع تصور للبناء الذري حتي أدق الجسيمات إلي وضع تصور لبناء الكون علي اتساعه- وكلها خارج نطاق الرؤية البصرية للإنسان- أن يعرف ماهية هذه الطاقة الغامضة وهل سيستطيع تسخيرها وتطويعها لخدمة الإنسان؟ و من الجدير بالذكر أن مشروع بلانك و الذي تكلف900 مليون دولار أمريكي قد جاء بعد ثلاث تجارب تخدم نفس الهدف ألا وهو قياس درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون. وكما أن علماء الفيزياء النظرية في العالم منشغلون الآن بما أسفرت عنه نتائج مشروع بلانك نجد أن علماء الفيزياء النظرية في مصر أيضا مهتمون بدراسة هذه النتائج ووضع تفسيرات علمية مناسبة, فكما أوضح الدكتور ممدوح ونس أستاذ علم الكون بجامعة القاهرة إلي أنه حسب النموذج المعياري, فإن الكون قد ولد بكثافة ودرجة حرارة عالية ثم بدأ في التمدد بمعدل كبير وصل فيها إلي حجم كبير في جزء من الثانية الأولي, ثم بدأ يهدأ ويصل إلي معدل تمدد أقل, و باستمرار التمدد بدأ الكون يبرد وتنخفض درجة حرارته تدريجيا خلال عمره الذي يقدر الآن بمليارات السنين. وكأي جسم ساخن تنطلق منه أشعة, فإن الأشعة التي انطلقت من الكون عندما كان ساخنا مازالت موجودة فيه ولكن درجة حرارة الكون انخفضت تدريجيا من عشرات البلايين من الدرجات إلي حوالي3 درجات مطلقة, نتيجة التمدد, وهذا الرقم كشفت عنه الحسابات الناتجة من النموذج المعياري المؤسس علي النظرية النسبية العامة. وللتأكد من صحة النظرية والنموذج المعياري للكون كان لابد من أن تتضمن مشاريع الفضاء المتتالية وجود أجهزة تقوم بقياس درجة حرارة الخلفية الإشعاعية للكون. من النتائج الأخري التي كشفت عنها صور بلانك للفضاء وجود بعض الألغاز العلمية منها أن توزيع المادة الكونية الناتج عن التحليل الإحصائي للبيانات جاء غير متماثل, وهذا علي غير ما تنادي به الفرضيات الأولية لعلم الكون. وهذا يعني أن الفرضيات التي تم بناء نظريات تفسير نشأة الكون وتطوره تحتاج إلي إعادة نظر. أما عن ماهية الطاقة الغامضة فإن مصادر الطاقة تمثل هدفا رئيسيا لرفاهية البشرية وتطورها, فيمكننا معرفة ما يمكننا الحصول عليه من مثل هذه التجارب بمقارنة بسيطة, فالطاقة التي استطاع أن ينتجها الإنسان بمعرفته بالتركيب الذري للمادة كبيرة بالمقارنة بمصادر الطاقة الأخري و التي يقوم عليها الآن العديد من الصناعات. فإذا علمنا أن المادة التي تعتمد في تكوينها علي البناء الذري المعروف يمثل أقل من5 % من طاقة الكون فما بالنا بحجم الطاقة التي يمكننا استغلالها و تسخيرها إذا ما توصلنا لمعرفة القوانين المتحكمة بالطاقة الغامضة و التي تمثل معظم الطاقة الكونية؟
