يمكن القول إن القرن العشرين مر بأربع أزمات: أزمة ايديولوجية سياسية نشأت بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي وانتهت بسقوط المعسكر الشيوعي ومواصلة صعود المعسكر الرأسمالي. وأزمة دينية بسبب بزوغ الأصوليات الدينية المناقضة لرباعية الديمقراطية المكونة من العلمانية والعقد الاجتماعي والتنوير والليبرالية. وأزمة علمية تمثلت في اعلاقات اللاتعينب التي أعلن عنها العالم الفزيائي الألماني هيزنبرج في عام1927 والتي تعني أنه لا يمكن رصد موضع الجسيم وسرعته في آن واحد, وأن ثمة خطأ في الرصد. وكان من شأن ذلك الخطأ أن أفضت علاقات اللاتعين إلي التشكيك في مبدأ اليقين والأخذ بمبدأ اللايقين. وأزمة ثقافية تمثلت في أزمة هوية. وقد شاهدتها في المؤتمر الفلسفي السابع عشر الذي عقد في لاهور بباكستان في عام1975 وكان عنوانه أزمة هوية. والذي أثار دهشتي هو أن باكستان قد أنشئت في أغسطس1947 علي أساس الدين الاسلامي, ومع ذلك فانها بعد مرور ثمانية عشر عاما علي نشأتها قد أصيبت بأزمة هوية. إلا أن هذه الاصابة قد مهد لها حوار حاد أثير في باكستان في السنوات الثلاث السابقة علي عقد المؤتمر, ولم تكن السلطة السياسية راغبة في فتح الجدل حولها, بل اجتهدت في كبت هذا الجدل. ومع ذلك نجح مؤتمر لاهور في إثارتها. ولهذا فأنا حينها تساءلت: لماذا هذا الصراع حول الهوية؟ وفي عام1982 دعيت للمشاركة في ندوة بدوسلدورف بألمانياالغربية وكان موضوعها افريقيا وأزمة هويتها. وفي عام1983 عقدت مؤتمرا إقليميا للمجموعة الأوروبية العربية للبحوث الاجتماعية في القاهرة, وكنت حينها مسئولا عن المشرق العربي, وكان موضوع المؤتمر الهوية الثقافية في الزمان. وكنت أقصد بذلك أن ثمة ضربين من الزمان: الزمان في الهوية الثقافية والهوية الثقافية في الزمان. في الضرب الأول الزمان إما براني مثل زمن الساعات, وإما جواني وهو الزمن الحي, ومدي تأثير كل منهما في تطوير الهوية. وفي الضرب الثاني الهوية الثقافية هي المتطورة بحكم أنها متزمنة بالزمان. في الضرب الأول الفاعلية للزمان وفي الضرب الثاني الفاعلية للهوية. والسؤال بعد ذلك: أين تقع أزمة الهوية في الضربين؟ للجواب عن هذا السؤال وعن الأسئلة الأخري نحن في حاجة إلي معرفة أصل مصطلح أزمة هوية. وأصله مردود إلي عالم نفسي اسمه إريك إريكسون(1902-1994), إذ هو الذي صك هذا المصطلح. وقيل إن سبب صكه مردود إلي نشأته التي أخفيت عنه. فأمه دنماركية من أسرة يهودية. ولدته في ألمانيا من رجل تزوجته وهي حامل باريك. وحينها انقطعت علاقتها بذلك الرجل ولم تعد تعرف عنه شيئا, وتزوجت من آخر في عام1905 الذي قرر أن يتبني ذلك الغلام. وقرر الكل إخفاء معالم أصله. واللافت للانتباه هاهنا هو أن إريك لم يكن حاصلا علي الدرجة الجامعية الأولي ومع ذلك عين أستاذا في جامعتي هارفارد وييل. والسؤال اذن في إطار ملابسات مولد إريك: هل أزمة الهوية تحدث عندما يكون الأصل مجهولا وغير معروف وغير معلن؟ وفي عام1985 رحلت إلي نيروبي عاصمة كينيا للمشاركة في ندوة عنوانها الهوية الثقافية والمعاصرة الافريقية بدعوة من الجمعية الدولية للميتافزيقا. والدينامو المحرك لها اسمه القس جورج مكلين أستاذ اللاهوت بالجامعة الكاثوليكية بواشنطن. وقد دارت الأبحاث كلها حول تحكم الأساطير والمحرمات في الحياة الافريقية, وأن هذا التحكم هو السبب في أزمة الهوية. ومع ذلك فهذا التحكم ضروري في محاربة الاستعمار. ولكن من شأن هذا التحكم أن يدفعك إلي التنديد بمنتجات الحضارة الأوروبية مع المحافظة علي الهوية حتي لو كانت ذات طابع أسطوري. والحجة في ذلك مردودة إلي تباين المسارات في الحضارة الانسانية. ومن ثم فليس من الضروري أن تكون العقلانية هي سمة الهويات أيا كانت مرحلة تطورها. ومع ذلك فأنا لم أصدم من تلك الحجة, إذ هي شائعة في الجامعات المحكومة بالأصوليات الدينية والتي يمكن أن تكشف الغطاء عن المجهول في أزمة الهوية وهو التراث الذي يدعو إلي الإجهاز علي إعمال العقل من أجل ترسيخ أفول العقل. وإذا أردت مزيدا من الفهم فانظر إلي حال مصر الآن في زمن الإخوان فماذا تري؟ تري بشرا في حالة حيرة, وحيرتهم تكمن في هذا السؤال: مصر إلي أين؟ وهي حيرة متواصلة لأنها تلقي إجابات غريبة, ومن بين هذه الاجابات اجابتان لا مثيل لهما في الغرابة. الاجابة الأولي وردت علي لسان المرشد السابق عندما قال: طظ في مصر, والاجابة الثانية وردت علي لسان المرشد الحالي عندما قال: أنا أستاذ العالم. والغرابة هنا هي أن مصر ليست واردة في الإجابتين. وإذا لم تكن مصر واردة فهل هي عندئذ في حالة أزمة أم في حالة غياب أزمة؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة