خلال شهر مايو8691, كان غليان الشارع الفرنسي قد بلغ مداه, بالرغم من وجود الجنرال ديجول علي قمة السلطة بكل تاريخه وشعبيته, وسرعان ما انفجرت ثورة الطلبة في باريس تحت قيادة الطالب كون بانديت. , وحاولت قوات الأمن الحيلولة دون استمرار أو انتشار المظاهرات, إلا أن كل محاولاتها فشلت. وخلال أيام كانت الثورة قد امتدت لتشمل كل فرنسا, وترددت أصداء الثورة في أوروبا, وجاء الدور علي ألمانيا وانجلترا, وتقدم الطالب الألماني رودي دوتشكة ليقود الثورة, والطالب الباكستاني الأصل طارق علي ليقود الثورة في بريطانيا. كانت الثورة معادية للسياسات والاتجاهات اليمينية التي كانت لها الغلبة في أوروبا, وكان الثوار اليساريون المتأثرون بالفكر الشيوعي واليساري الأوروبي, بالإضافة إلي فكر وكتابات ماركيز, ابن ثقافة أمريكا اللاتينية, لا يتطلعون لحلول وسط ولا يريدون الانخراط في مساومات مع القوي الحاكمة, أو حتي المعارضة. كان الهدف واضحا, وكانوا علي استعداد لدفع الثمن المطلوب, وقد دفعوه كاملا, وشهدت باقي الدول الأوروبية ثورات مماثلة, وإن لم تبلغ الأفق نفسه الذي وصلت إليه الثورات الفرنسية والألمانية والإنجليزية. وأصيبت حركة الحياة بالشلل, خاصة في فرنسا, طوال أسابيع الثورة التي كانت جديدة في أفكارها وأساليبها, واعتمادها بشكل أساسي علي الطلبة, وفي إصرارها علي إزاحة قوي اليمين السياسي. ولأن الهدف يتناسب وغلبة القوي اليسارية والشيوعية في الأوساط النقابية والعمالية في فرنسا, فقد قررت النقابات العمالية الانضمام للثورة. وعندما وجد الجنرال ديجول نفسه في مواجهة هذا الغضب الشعبي, أعلن عن إجراء استفتاء يقرر فيه الناخبون مصير الحكم في فرنسا, وتعهد بأنه إن لم يحصل علي نسبة06% فسيترك السلطة. وهدأت الثورة, بعد أن أصبحت الأمور في أيدي المواطنين الناخبين ليقرروا مصير الحكم في فرنسا, وتم إجراء الاستفتاء وفاز الجنرال ديجول بالنتيجة, ولكنه قدم استقالته واعتزل الحياة السياسية وتوجه إلي مقر الإقامة الذي اختاره في كامب دي لاجليز ليقضي ما تبقي له من سنوات, وذلك لأن النتيجة لم تكن06% كما اشترط.. وبذلك حقق الثوار الطلبة هدفهم, ولكن ديجول كان قد قرر إبعاد قائد الثورة وزعيم الطلبة كون بانديت إلي ألمانيا. وشهدت أوروبا زحفا للقوي السياسية اليسارية علي التوالي, وذلك قبل أن تستعيد قوي اليمين حيويتها وتعود إلي المسرح مرة أخري. ولأنني كنت زائرا لفرنسا في بداية شهر يونيو8691, أي في ذروة الثورة, فقد سعيت للقاء كون بانديت, وفعلا نجحت المحاولة والتقيت به وبنائبه سوفاجو في مقر قيادته بجامعة السوربون. وخلال اللقاء الذي كان الأول مع صحفي مصري أو عربي بدا كون حاسما وواضحا وقويا وواثقا, ولم يقل أبدا إنه يتطلع لمقعد نيابي أو بمجلس الوزراء أو حتي بمجلس للمستشارين, قال: إنه يري أن الجنرال ديجول بالرغم من تاريخه المشرف عسكريا وسياسيا وإنجازاته الهائلة.. قد آن الوقت ليرحل ويترك الساحة لقوي أخري تملك سياسات وأفكارا وتوجهات تقدمية تعمل علي إنصاف القوي المقهورة عالميا وأوروبيا وفرنسيا. ولم تختلف رؤية نائبه سوفاجو, وإن كان أكثر حدة في الهجوم علي السياسة الأمريكية في فيتنام, وجنوب شرق آسيا, وفي أمريكا اللاتينية. وعندما التقيت بهما, كانت المظاهرات والإضرابات تتواصل, وفي استمرارها أصابت فرنسا بالشلل, والقوي الأمنية بالعجز عن مواجهتها. وسألت كون: إلي متي ستستمر الثورة؟.. فأكد أنهم لن يتوقفوا قبل رحيل ديجول وتغيير مسار الحكم بوصول القوي الاشتراكية واليسارية بصفة عامة إلي السلطة. أما: رودي دو تشكة, فقد التقيت به في يونيو7691 بتنسيق من الحزب الحاكم في ألمانياالشرقية, وقد قدم لي يد المساعدة لجمع تبرعات لمصلحة مصر في برلينالغربية, ولم يكتف الرجل بإجراء الاتصالات بالشركات والمؤسسات, بل رافقني خلال الكثير منها, وكان لدوره وحضوره تأثير كبير علي حصيلة حملة التبرعات.. وبعد مرور عام علي لقائنا الأول, التقيت به مرة أخري في أثناء اندلاع ثورة الطلبة التي كان يقودها في كل ألمانياالغربية. وكان واقعيا وهو يقول: إن الثوار لا يحلمون ولا يتطلعون لتكون ألمانياالغربية مماثلة لألمانياالشرقية, ولا أن يكون للقوي الاشتراكية نفس النفوذ والتأثير, ولكنهم سيعملون وبقوة لتحجيم قوي اليمين, خاصة الحزب الديمقراطي المسيحي. ولم أتمكن من لقاء طارق علي في أثناء وجودي بالعاصمة البريطانية لندن, برغم أنني بذلت كثيرا من المحاولات, استمعت خلالها بعدد كبير من الدبلوماسيين والصحفيين والطلبة المصريين. وابتداء من منتصف عام3991, تحملت مسئولية مكتب الأهرام في ألمانيا, وبدأت أتابع أخبار كون, قائد ثورة الطلبة في فرنسا, وكان قد أصبح المسئول الأول عن الثقافة في ولاية هيسن الألمانية, فطلبت من مكتبه تحديد موعد, وما أن وصل إلي فرانكفورت حتي اتصل بي وقال إنه يذكرني تماما, وإنه يرحب بلقائي, فأخبرته أنني سأصحب معي زميلي مازن حسان وزميلتي سالي مباشر, فأبدي ترحيبا وقال إنه يريد أن يسمع منهما باعتبارهما من جيل آخر أكثر نبضا وحماسة. وفي مكتبه, جري اللقاء ودودا حميما, واستعدنا جميعا الأيام الجميلة والصعبة للثورة الفرنسية والمواجهة غير المتكافئة مع قوات الأمن والجندرمة الفرنسية وصمود الطلبة وتضحياتهم لكي تحقق الثورة أهدافها. وقال بوضوح إنه لا يريد أن يتحدث عن النشاط الطلابي الحالي في أوروبا حتي لا يساء فهمه. ولأن قوي اليمين كانت قد عادت إلي المسرح بقوة في أوروبا, تاتشر في بريطانيا وكول في ألمانيا والديجولية في فرنسا, فقد قال معقبا: إنها دورة تاريخية, فالناس أي الناخبين يتطلعون للتغيير, وهذا التغيير يتم علي شكل دورات متتابعة, وأن هذا ربما كان في مصلحة حركة التقدم بصفة عامة, فكل اتجاه سيسعي لتقديم الحلول الأنسب لكسب ثقة الناخبين.. وعندما تتجمد الأوضاع أو يفشل يفتح الباب أمام الناخبين لاختيارات جديدة, كان الثائر قد أصبح أكثر حكمة ونضجا. وها نحن وبعد مضي أكثر من نصف قرن علي ثورة الطلبة العظيمة التي هزت أوروبا كلها بقوة, ومدت تأثيرها إلي دول العالم ليقتدي الطلبة بها سعيا وراء التغيير, نكتشف أن أيا من هؤلاء الثوار العظام لم يجلس علي مقاعد الحكم, لقد ثاروا واكتفوا بدورهم كثوار, لقد غيروا قواعد العمل بالمسرح السياسي في دولهم, ودخلوا التاريخ ولكنهم لم يدخلوا دهاليز السلطة, وهذا الدرس التاريخي لم يصل بعد إلي مصر. المزيد من مقالات عبده مباشر