عبد الناصر عيسوي شاعر وباحث وكاتب صحفي, يعمل نائبا لرئيس تحرير مجلة الإذاعة والتليفزيون, ومدير تحرير لمجلة الشعر, وله ثلاثة دواوين, أحدثها: أنا أحق بالجنون من قيس, سبقة ديوانان هما: قصائد للنار و هكذا تكلم الوثن, وفي مجال الدراسة الأدبية, له: شعر بني هاشم في الجاهلية وصدر الإسلام: جمع وتحقيق ودراسة, وهي رسالته للدكتوراه, و صلاح عبد الصبور: ضمير الشعر المصري, واختيار وتقديم لروائع ديوان المتنبي, والفقيه المصري: الليث بن سعد, وشعر السيدة آمنة بنت وهب: جمع وتحقيق وتقديم أما مناسبة الكتابة عنه اليوم, فصدور ديوانه الثالث: أنا أحق بالجنون من قيس الذي يهديه إلي الحبيب وحده لا شريك له, والذي تسيطر علي قصائده روح صوفية تذكرنا بتجليات الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي, ووجدانيات إمام المحبين وسلطان العاشقين عمر بن الفارض, وإشراقات السهروردي والشهرزوري ومناجيات رابعة, وأقباس من صياغات النفري في مواقفه ومخاطباته, كل ذلك مندغم وممتليء بوهج من شعر المدائح النبوية لدي أعلامه الكبار في القديم والحديث. لكن هذه الروح الصوفية والتجليات والأقباس والإشراقات, لا تصرفنا عن تأمل هذا الشاعر العصري الذي يسعي إلي أن يضيف إلي المأدبة العرفانية في تراث الشعر العربي وميضا جديدا ومنمنمات تستحوي واقعه الإنساني والوجودي, وتشي برؤيته التي تنزع إلي بعض المغايرة والاختلاف: هل ينتسب العذريون إلي وفيهم هذا المجنون. يقبل جدران حبيبته يتمني أن يتزوج ليلاه؟ ماذا لو كنا زوجناه؟ هل كان استوحش في الفلوات لتصبح مأواه؟ هل كان المجنون يظل يطاردني حتي ينتسب إلي, وكل منا يبكي ليلاه؟ أم كنت وضعت بهذا حدا للمأساة؟ وصولا إلي قوله: كنت أقبل أعتاب حبيبي مع أن حبيبي ليس له أعتاب شبح المجنون يضايقني وهو يقبل جدران حبيبته وأنا أسبح في الأكوان وحبيبته تحبسها الجدران وليلاه كانت بالعراق مريضة وليلاي عين الطب, عين شفائيا فلا ليتني كنت الطبيب. وإنما يظل جنوني بعد موتي باقيا حتي يقول في ختام قصيدته, مفتتح ديوانه: يا قسوة من أرقني أو زاحمني أو نازعني في ملكوت جنوني فلقد صرت أرق من الرقة صرت أدق من الدقة صرت فناء أبديا حتي لا يتجلي إلا وجه حبيبي! عبد الناصر عيسوي يذكرنا بما فعله شعراء الفرس الإسلاميون حين تناولوا قصة قيس وليلي في التراث العربي, وأعادوا كتابتها وصياغتها من منطلق صوفي قوامه سبحات العشق الإلهي وأشواق الوجد الصوفي, فليلي عندهم أصبحت رمزا للحقيقة المطلقة وقيس أصبح رمزا للباحث عن هذه الحقيقة التي يضنيه البحث عنها, وينذر لأجلها حياته ووجوده, ويصعد في سلم المحبة الإلهية درجات بحسب قوة الإيمان ودرجة التحلي وصولا إلي درجة الفناء في العشق, واشتهر من بين شعرائهم شاعران مبدعان هما عبد الرحمن جامي وغافقي اللذان كتبا قصة ليلي والمجنون من منظور صوفي, وقد ترجم الناقد الكبير والأستاذ الجامعي الراحل الدكتور محمد غنيمي هلال رائد دراسات الأدب المقارن في الجامعات المصرية والعربية قصة جامي ليلي والمجنون في صياغة عربية بديعة, وجعلها متاحة للقاريء العربي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان وأتاح لنا نحن طلابه أن نطل علي هذا الأفق البديع. لذا, فقد كان طبيعيا أن تتناثر في هذا الديوان الجديد لعبد الناصر عيسوي عطور هذا الجو الروحاني ومفردات من معجمه وترانيم تتكيء إلي إيقاعات إنشاد الصوفية وأذكارهم, واهتزازاتهم الروحية والجسدية وهم في مقام الوجد, يحلمون بالوصول, ويؤملون في الدنو من الأعتاب أو العتبات: شربنا سكرنا, سمعنا طربنا, سمعنا أطعنا, رأينا ذهلنا, حضرتم وغبنا, وغبتم بكينا, صبرنا ونلنا, رضينا شكرنا, فزدنا إلهي وقرب إلينا.. كما كان طبيعيا- ومتفقا مع هذا السياق أن يكون كثير من عناوين قصائده مصطبغا بهذه الصبغة: في مقام الوقوف, الشافية, اليحسوم, يا مصطفي, سقاني النبي, خلقت محمدا, قلبي يحن, فر الحمام, تغريدة, وغيرها, وأن تقلع بنا صياغاته في لغته الشفيفة إلي آفاق تندي عذوبة, ورقة وصفاء, وإيقاعات هامسة, كأنها أجنحة حمام أبيض يتناثر في فضاء طلق نقي, يطلق العنان لتسابيح الروح, وجلوات القلب المؤمن والبصيرة الكاشفة. أما شاعرنا عبدالناصر عيسوي, فهو بالفعل, وفي هذا الديوان, أحق بالجنون من قيس! المزيد من مقالات فاروق شوشة