في ديسمبر من عام1989 بدأت سلسة من التحركات المناهضة والتظاهرات شديدة الوطأة علي نظام الرئيس الروماني نيكولا شاوشيسكو, واستمرت التظاهرات حتي يوم22 ديسمبر وحينما حاول(شاوشيسكو) الهروب من القصر الرئاسي لم ينجح, وتم القبض عليه تمهيدا لمحاكمته يوم25 ديسمبر, حيث حكم عليه وعلي زوجته بالاعدام رميا بالرصاص وتم تنفيذ الحكم فورا. بعد إعدام( نيكولا شاوشيسكو) وزوجته إيلينا,أعلن عن نجاح الثورة وعمت الفرحة الشعبية كل المدن الرومانية.. بعد عدة شهور أسس( إيون إيليسكو) أحد رجال نيكولا شاوشيسكو المخلوع جبهة الخلاص الوطني التي تشكلت في معظمها من الجيل الثاني من الشيوعيين حيث عملت علي إعادة النظام السابق وبدأت في نشر الفوضي وعدم الاستقرار, كما روجت لكل وسائل العنف في الجامعات لتشويه مفهوم الثورة عند البسطاء من عامة الشعب. استخدم( إيون إيليسكو) بعض وسائل الإعلام للتشكيك في الثوار والحركات الثورية واتهامهم بالعمالة للخارج, وتلقي التمويل من الجهات الخارجية,بهدف زعزعة استقرار البلاد بل وأتي بالعمال وسلمهم السلاح لمهاجمة الثوار في الشوارع حتي يظهر الثوار وكأنهم يقتلون بعضهم بعضا وأوهم الشعب الروماني بأنه هو الوحيد القادر علي توصيل رومانيا إلي بر الأمان وحماية البلاد من الخطر الخارجي. نجح( إيون إيليسكو) وجبهة الخلاص الوطني في استخدام ادوات الثورة المضادة والتأثير في المشهد الشعبي والدفع في اتجاه إجهاض الثورة الرومانية بعد سنة ونصف السنة فقط من قيامها حيث فاز( إيون إيليسكو) بالرئاسة بأغلبية ساحقة بنسبة85%. تذكرت ذلك التاريخ وأنا أتابع تعليقات البعض حول الابتسامات العريضة للرئيس السابق حسني مبارك وتلويحاته بالتحية لأنصاره داخل القفص في جلسات إعادة محاكمته والتي أثارت حيرة البعض,لكنها زالت مع قرار إخلاء سبيله مسبوقا ومتبوعا بعدد كبير من الأحداث المؤسفة. أما نظرة الثقة التي اعتلت وجهه فربما لاعتقاده أن أباطرة الثورة المضادة لن يتركوه حبيسا بعد أن أمضوا أكثر من عامين في الإعداد لذلك من خلال أدوات الثورة المضادة والمتمثلة في اضطرابات أمنية منظمة واستخدام لبعض وسائل الإعلام الخاصة بهم لخلق حالة من عدم الاستقرار وعزف مارش جنائزي حزين للوطن ومستقبله لإقناع أن النظام السابق كان أكثر أمانا لهم بغض النظر عمن يحكم المجلس العسكري او رئيس منتخب. وقد انتصرت ثورة يناير لأربعة أسباب هي سلمية الثورة, ووحدة الميدان, والقيادة الجماعية للثورة, ووحدة العمل الوطني,وهذه العناصر حاولت قوي الثورة المضادة أن تهدمها واحدة تلو الأخري من خلال اعتماد العنف كأداة للنضال السياسي وإضفاء شرعية أخلاقية علي استخدام العنف في العملية السياسية, وعودة الفتنة الطائفية بوجهها القبيح,والعودة إلي صراعات واستقطاب ما قبل الثورة,وحتي الهم الوطني تحول إلي هم ذاتي لم يترجم إلي مشاركة فاعلة وكاملة ومن خلال هذه التحولات فقد تمكنت الثورة المضادة من اكتساب مساحات كبيرة في المشهد السياسي دون أن يحظي ذلك حتي بغضب شعبي مناسب. والثورة المضادة هي محاولة لعكس التحولات التي تسببت فيها الثورة,ويتجسد نجاحها في نجاح الطبقة العليا من المجتمع في العودة لمراكز السلطة بعد أن تم تهديدهم وإزاحتهم ولو بصورة مؤقتة من خلال الثورة,وهذا التعريف يتناقض مع قناعاتنا أن الثورة يفترض لها ألا تواجه معارضة داخلية, وأن توحد الشعب, بدلا من أن تقسمه إلي معسكرات متحاربة. وللثورة المضادة أقنعة عدة فقد تأخذ شكل تدخلات من قوي معادية للثورة في الداخل أو الخارج, أو تتلون وترتدي أقنعة تحاول من خلالها أن تحقق مصالحها من خلال الثورة الأساسية فتقدم أفكارها وقياداتها علي أنهم في طليعة الثوار ويمثلون مطالبهم والثوار منهم براء.. والتاريخ حافل بالأمثلة. فقد مثل مفهوم' تصدير الثورة' دورا مهما في الثورة الفرنسية التي بدأت عام1789 وامتدت حتي1799, وقد شهدت فرنسا فترة من الاضطرابات الاجتماعية, كما تصادمت فيها عسكريا مع حلفاء النظام الملكي, لاسيما النمسا بسبب الخوف من انتقال عدوي الثورة إلي أنحاء أوروبا. وبعد عدة انتصارات للجمهورية الفرنسية أعلنت بريطانيا والجمهورية الهولندية الحرب عليها, وأخذت القوات الفرنسية تواجه الهزائم علي جميع الجبهات تقريبا, وطردوا من الأراضي التي انتصروا فيها سابقا كما نشأت حركات تمرد وثورات في جنوب وجنوب غرب فرنسا ضد السلطة الفرنسية ودعما للملكية. ومثلت ثورة رومانيا كما قلنا سابقا مثالا آخر, حيث إنه بعد انقضاء نظام شاوشيسكو وإعدامه لم تكن هناك قوي سياسية جاهزة لتسلم السلطة وهو ما ساعد بقايا النظام القديم علي إعادة تنظيم الصفوف ومن ثم العودة إلي السلطة مجددا بعد تغيير لغة الخطاب علي نحو مناصر للثورة,ومن هنا جاء أيون أليسكو إلي السلطة في رومانيا من قلب النظام القديم. أما في الواقع المصري فقد تشكلت تحالفات تمثل الثورة المضادة أطرافا واضحة فيها,وقادت هذا التحالف أزمات أمنية عدة حاولت كل مرة فيها أن ترتدي قناعا جديدا ومن بين تلك الأقتعة: قناع الفتنة الطائفية: من خلال هجوم مباشر علي كنائس ومساجد بهدف خلق حالة احتقان ديني تشبه تلك التي حاول خلقها نابليون أثناء الاحتلال الفرنسي لمصر. قناع تحدي السلطة أو فشل الدولة: ويتم فيه إعلاميا تصوير الدولة بأنها دولة فاشلة علي وشك السقوط, والحكومة علي أنها عاجزة غير قادرة علي الفعل, وما يستتبع ذلك من محاولات مستميتة لإبراز كل أوجه القصور وتسليط الاضواء عليها. قناع الحقوق والحريات المقيدة: وهو قناع يتم استخدامه لإقناع المجتمع بأن الدستور الجديد الذي جاء بعد الثورة سوف يقيد الحقوق والحريات ويقنن محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية ويجبر الاطفال علي العمل. قناع عدم عدالة التنمية: وهو قناع أيضا شائع الاستخدام بدأ بشائعة عن استقلال إحدي المدن لشعور أهلها ببعض المظالم,ورغم ما استدعاه الحدث من سخرية إلا أن القضية تبدو غاية في الخطورة,وتؤكد أن مدبري تلك الأحداث يعرفون تماما ما يقومون به ولديهم دراية واسعة ببيئة النظام الاقليمي الدولي. قناع عنف مجتمعي: ويتم فيه إضفاء شرعية أخلاقية علي العنف وأدواته ومشاهد حرق وسرقة منظمة وممنهجة لمؤسسات الدولة والملكيات العامة والخاصة. قناع دفع القضاء للاشتباك في المشهد السياسي: حيث يتم دفع منصة القضاء بهيبتها واستقلالها وحياديتها إلي الاشتباك في المشهد السياسي وأن تكون طرفا في صراع سياسي لا يدار بمنطق القانون. إن الثورة المضادة وهي تنسج خيوطها في معركة نتمني أن ينتصر فيها الجميع للثورة المصرية العظيمة وان نتعلم جميعا منهج التعاون مع الاختلاف والتغافر رغم الأخطاء وان تحسن القوي الثورية إدارة المشهد مع الإقرار بأن النخب السياسية الجديدة في الحكم أو المعارضة بعد الثورة لابد أن تسير في منحني التعلم الذي يعني في المقام الاول الخطأ والصواب. لمزيد من مقالات د.ياسر على