تدخل مصر هذا الأسبوع نفقا مظلما جديدا, بعد أن كسب التخلف الحواري والاحتقان الطائفي ميزة إضافية, وتعيش حالة جدل وانقسام محتدم وسباق لتكريس سوء الفهم هذه المرة بين الجماعة الحاكمة والهيئات القضائية, حول مشروعات القوانين المقترحة لتعديل قانون السلطة القضائية, وامتد حوار الطرشان من الشارع والفضائيات والجامعة إلي الغرفة الوحيدة للبرلمان مجلس الشوري حيث علت أجواء التلاسن والشجار وتاهت فرص المودة والحوار مع موافقة اللجنة التشريعية بمجلس الشوري من حيث المبدأ علي مناقشة مشروعات القوانين المقدمة دون إبطاء, وعلا صوت التهديد بتدويل القضية, وتردد اسم المحكمة الجنائية الدولية. وفي محاولة لحسم هذا الخلاف حرصا علي استقرار الوطن كان هذا اللقاء مع شيخ القضاة المستشار الدكتور أحمد مدحت المراغي, الذي حرص علي الحوار لالأهرام رغم ظروفه الصحية الصعبة, لخطورة المرحلة وحساسية القضية, ولأنه صاحب الاقتراح برفع سن الإحالة للمعاش للقضاة لتحقيق العدالة الناجزة عندما كان أمينا عاما للمجلس قبل أكثر من30 سنة. كيف يمكن تفكيك هذا الإشكال القانوني؟ يتنازع القضية رأيان الأول يذهب الي أنه لا يجوز لمجلس الشوري مناقشة المشروع المذكور لأن ذلك الأمر اختصاص أصيل للمجلس النيابي المنوط به التشريع وهو مجلس النواب ولابد من التريث حتي انتخاب ذلك المجلس. وأن الشوري في المرحلة الانتقالية الحالية يتولي بصفة استثنائية سلطة التشريع التي تقتصر فقط علي التشريعات العاجلة التي لا تحتمل التأخير, فضلا عن أن مجلس الشوري محكوم ببطلانه أمام القضاء الإداري ومهدد بعدم دستوريته وحددت المحكمة الدستورية العليا جلسة للنظر في عدم الدستورية في الخامس من الشهر القادم أما الرأي الآخر فيري أنه في المرحلة الانتقالية الحالية يختص مجلس الشوري بسلطة التشريع ولايوجد ما يحول دون ذلك لأن المصلحة العامة تقتضي التعجيل بإصلاح النظام القضائي, وامتد هذا الخلاف الي الشارع المصري والمجتمع بأسره ووصل أيضا الي العالم الخارجي وبعض المؤسسات الدولية المختصة بهذه الادعاءات, وحسما لهذا الخلاف القانوني ولتوفير الاستقرار للوطن أقترح إما أن يقوم السيد رئيس الجمهورية الدكتور محمد مرسي بوصفه حكما بين سلطات الدولة الثلاث أن يطلب إرجاء النظر في مشروع تعديل السلطة القضائية الي حين انتخاب مجلس النواب أو ان تبادر وزارة العدل بالتقدم بمشروع قانون تعديل السلطة القضائية الذي أعدته اللجنة المشكلة من كبار رجال القضاء التي يرأسها المستشار أحمد مكي وزير العدل الذي تقدم أخيرا باستقالته ماالجديد في مشروع مكي..؟ من مميزات مشروع المستشار مكي, الذي اقترحته اللجنة التي رأسها وزير العدل المستقيل أن يكون التفتيش القضائي بأكمله تابعا لمجلس القضاء الأعلي وليس لوزير العدل, وأن تكون كل قراراته عن طريق مجلس القضاء الأعلي لابعاد سلطة الوزير عن رجال القضاء كما أن المشروع المقترح يوفر بصفة عامة المزيد من الاستقلال والحيدة لرجل القضاء, وأيضا يتناول منع ندب رجال القضاء, وهذا ما اتبعته بغير نص قانوني لمدة خمس سنوات في أثناء رئاستي لمجلس القضاء الأعلي منذ30 سنة, منع ندب رجال القضاء قاطبة من عملهم القضائي حرصا علي أن يتفرغ رجل القضاء لعمله وهو الفصل في القضايا والطعون وبعدا برجال القضاء من العمل في غير الجو القضائي.لذلك اقترح أن يعرض هذا المشروع مشروع مكي الذي نال اجماعا من رجال القضاء علي مجلس الشوري مع المشروع المقدم, والخروج بمشروع يحقق المزيد من استقلال القضاء وحصانته, ويعالج مشكلة بطء اجراءات التقاضي التي يعاني منها الجميع. وللتاريخ أقول إن رجال القضاء في جميع العهود طالبوا برفع سن التقاعد لمواجهة الكم الهائل من الدعاوي والطعون التي يتأخر الفصل فيها لسنوات عديدة, وتطول اجراءات التقاضي بين أصحاب الدعاوي دون أن يتم الفصل في تنازعاتهم بحكم نهائي, وللتاريخ أقول أيضا أن الرئيس السابق مبارك قام بزيارة لمجلس القضاء الأعلي في1986 بعد تعديل قانون السلطة القضائية, وكان المجلس في ذلك الوقت يرأسه المستشار الجليل محمود درويش, وكان من بين أعضائه المستشار محمد عبدالعزيز الجندي النائب العام في ذلك الوقت, وقد أعرب الرئيس السابق عن تقديره لرجال القضاء وكنت في ذلك الوقت أمينا عاما لمجلس القضاء الأعلي فقلت له أن أمام محكمة النقض أكثر من200 ألف طعن يتأخر الفصل فيها وأننا نفقد سنويا قضاة أفاضل والقضاء في أمس الحاجة الي خبرتهم وانني أقترح رفع سن التقاعد بالنسبة لرجال القضاء أسوة بما هو متبع في الدول المتقدمة, وقد وافق الرئيس السابق من حيث المبدأ علي هذا الاقتراح, وقد صدر فعلا في أكتوبر93 مرسوم بقانون برفع سن تقاعد رجال القضاء الي64 عاما, وقد أسهم ذلك في السنوات اللاحقة في زيادة عدد الدوائر في محكمة النقص ومحاكم الاستئناف وقد عاون ذلك في سرعة العدالة, ورغم الزيادة في عدد الدوائر فإنه نظرا لزيادة عدد المنازعات المطروحة فقد تم رفع السن أيضا إلي66 عاما ثم68 ثم70 عاما, للإسهام في معالجة المشكلة المزمنة لبطء إجراءات التقاضي. بعد بلوغك سن التقاعد كنت تطالب بضرورة الاستفادة من الخبرة القانونية العميقة لكبار رجال القضاء.. هل تستشعر إهانة الأن في مطلب تخفيض السن الوارد في مشروع القانون الجديد؟ إهانة القضاء ليست بالأمر اليسير أو الهين بل خسارة كفاءة قانونية عالية تكتسب بممارسة الفصل في القضايا والطعون والعمل بالقضاء منذ بداية السلم القضائي وتزداد هذه الخبرة القانونية بمرور السنوات مع مداومة الإطلاع علي الأحكام التي ترد من المحكمة العليا النقض التي ترسي المباديء القانونية الصحيحة وتفسر المواد التي يتبدد بشأنها الخلاف. هل يمكن الاستفادة من كبار المحامين لسد العجز في القضاة؟ ليست كل من درس القانون ومارس أعمالا أخري يمكن أن يكون قاضيا ناجحا ومؤهلا للفصل في القضايا, والتطبيق العملي أثبت أنه ليس كل من مارس المحاماه يمكن أن يكون قاضيا ناجحا, وقد حدث أن عين أحد كبار أساتذة القانون وصاحب المؤلفات الكثيرة الدكتور عبدالمعطي خيال عميد حقوق القاهرة مستشارا لمحكمة النقض وبعد فترة وجيزة طلب إعفاءه من هذه الوظيفة لاعبائها الجسيمة التي تحتاج الي الممارسة والخبرة السابقة والتدرج في العمل.وكان صريحا وشجاعا في إعلان رأيه هذا, وقد قدر له رجال القضاء هذا الموقف الذي زاد من قدره وأستاذيته, هذا فضلا عن أن من يمارس المحاماه ويوفق فيها لا يرغب في العودة والعمل بالقضاء الذي إن كان أعضاؤه يتمتعون بمكانة عالية في المجتمع فإن مزاياها المادية ضئيلة ولا تقارن بالعائد الذي يحصلون عليه من المحاماه. يري البعض أنه يلزم لنجاح أي ثورة أن يتخلص النظام الجديد من الرجال الذين ارتبطت مصالحهم بالنظام الذي قامت الثورة ضده كيف تري هذا الرأي؟ هذا القول بعيد عن القضاء كلية لأن اختيار رجل القضاء في بداية السلم من معاون نيابة يخضع لمعايير قاسية وصارمة يشترط فيه الكفاءة بأن يتم إختياره من أوائل كليات الحقوق الحاصلين علي أعلي الدرجات ويجري إختباره أمام مجلس القضاء الأعلي, وإذا ما قدمت أي شكوي أو شاب سمعته أي خدش يجري التحقيق معه فورا, وإذا ما تبين صحة ولو حتي شبهات فإنه يحال إلي مجالس التأديب, ولا يطلب هذا المجلس أدلة أو شكوي بل يكتفي بمجرد الشبهات القوية التي تحيط بالعضو أو رجل القضاء, وهذا يكون كافيا لنقله إلي وظيفة غير قضائية أو إحالته للتقاعد فمعيار محاسبة رجل القضاء أشد كثيرا من الموظف العام الذي يتطلب بالنسبة له وجود وتقديم أدلة ضده, لأن القضاء كالثوب الأبيض لا يجوز أن تشوبه نقطة سوداء تنال من سمعته. وقد عرضت علي وأنا رئيس مجلس الصلاحية شكاوي من قضاة رفض أن يتعاون معها, وكان هذا كافيا لاصدار القرار بنقله الي وظيفة غير قضائية, وهذا لا يحدث في أي وظيفة أخري, والقاضي يجب ألا يمارس السياسة ولا ينتمي لأي حزب أو جماعة, وإذا حدث أن خالف ذلك يتم التحقيق معه والتخلص منه من النظام القضائي, لأن هذا يتعارض مع التقاليد القضائية الراسخة التي لا تسمح ولا تجيز أن يكون للقاضي انتماء سياسي أو حزبي. لأن ذلك يتعارض مع صدقه واستقلاله, ويحيط بالشبهات الحكم الذي يصدر منه, وتطبيق هذه المعايير بصرامة تنفي بالتالي شبه ارتباط مصالح القاضي الحقيقي بنظام سياسي قبل أو بعد الثورة. هل تري أن الساحة القضائية الآن ينطبق عليها هذا الرأي الجميل ام أن الثوب الابيض شابته بعض الثقوب؟ في الحقيقة والواقع أن القضاء معروف عنه هذه الصفات, إلا أن اشتراكه في الاشراف علي الانتخابات ونزوله من منصته العالية للوقوف بجوار صناديق الانتخاب وعدم حيدة بعض القضاة في الاشراف الدقيق علي العملية الانتخابية ترتب عليه إثارة الشكوك في بعض الدوائر الانتخابية مما نال من حيدة القضاة, وإثارة التكهنات حول القضاة الذين اشرفوا علي تلك العملية, وكان يتعين لإبعاد هذه الشبهات وحرصا من سمعة القضاء أن يتم التحقيق الفوري في تلك الوقائع لاخراج من تثبت إدانته منها, كما أنه من ناحية أخري حدث ان بعض رؤساء محكمة استئناف القاهرة أسند بعض الجرائم السياسية الي دوائر معينة يقال عنها إنها تميل الي الشدة في العقاب علي خلاف القاعدة الأصولية أن يتم توزيع العمل علي الدوائر وفقا لمعايير مكان ارتكاب الجريمة, مما أثار اللغط والشبهات حول الأحكام التي صدرت في هذا الشأن, وأن كنت متأكدا أن أحدا لم يخالف ضميره أو حدث تدخل في تلك القضايا.. لأني لا أتصور أن قاضيا يقبل أن يتحدث معه أحد فيما يقدم إليه من دعاوي. لكن الجميع يعتقد أن وجود القاضي ضمانة لنزاهة الصندوق ؟! الرأي العام يطالب باشراف القضاه علي الانتخابات وهذا المطلب أضر بسمعة القضاء.. والضمانة أن نتبع الأسلوب الذي يجري في الكثير من دول العالم بأن يقوم بالاشراف علي الانتخابات لجنة مستقلة محايدة تتمتع بحصانة تماثل الحصانة القضائية وصلاحيات كبيرة تضمن نزاهة الانتخابات, وهذا في الهند, والمعروف للجميع نزاهة الانتخابات في تلك الدول التي يتم تداول السلطة فيها بين مختلف الأحزاب, وهذه اللجنة تتمتع بصلاحيات قد يكون من بينها شطب المرشح وقد حدث أن أحد الوزراء في الهند استقل سيارته الحكومية للتجول في الدوائر. فقررت اللجنة شطبه من الترشيح. وقد استجاب الدستور الجديد بمصر لهذه المطالب وأنشأ لجنة عليا للإشراف علي الانتخابات بعد فترة زمنية من إصداره, وأتمني حسن اختيار أعضاء اللجنة العليا ومنحهم صلاحيات واسعة لتأتي الانتخابات نزيهة مستقلة, كما هو الشأن في الدول المتحضرة التي لا يشوب الانتخابات فيها أي شائبة وحتي لاتمارس السياسة هوايتها في إفساد الصندوق والانتخابات والقضاء.