رحل الأستاذ المربي الصابر المجاهد محمد فريد عبد الخالق يوم الثاني عشر من أبريل(2013) بعد حياة حافلة بالعلم والعمل امتدت لما يقرب من قرن كامل من الزمان. لم تلن له قناة يوما. ولم تؤثر المحن التي تعرض لها عن إيمانه العميق بالدعوة إلي الله, ولم تثنه عن مبدأ واحد من مبادئ هذه الدعوة. ولم تزحزحه العواصف الهوجاء عن ثقته الراسخة بأن الإسلام يسع الجميع من بني البشر, وينعم في ظله كل بني آدم. في أوائل التسعينيات من القرن الماضي طلب مني الأستاذ السيد ياسين المفكر المعروف أن أدعو الأستاذ محمد فريد عبد الخالق للإدلاء بشهادته ضمن مجموعة شهادات ثقافية وسياسية كنا نجمعها من رموز الفكر والسياسة المصريين الذين عاصروا أحداث النصف الثاني من القرن العشرين; وذلك بغرض استخدام شهاداتهم في مشروع بحثي قمنا به في المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عن المناخ الثقافي في مصر من وجهة نظر أهم التيارات الفكرية والسياسية التي أسهمت في المجادلات حول قضايا الثقافة وإشكالياتها وتحدياتها. وقد صدر بحثنا هذا في عام2000 م وكتبت فيه فصلا عن إشكاليات الفكر الإسلامي في العهد الليبرالي. وبهذه المناسبة أشهد أن أستاذنا السيد يسين كان حريصا أشد الحرص علي الاستماع إلي ممثلي كافة التيارات الفكرية والسياسية; بما فيها تلك التي كانت تعارض نظام مبارك المخلوع. وكان من الذين دعوناهم, واستمعنا إلي شهاداتهم كل من: الأستاذ محمود أمين العالم(المفكر اليساري), والأستاذ ياسين سراج الدين(القيادي الوفدي), والأستاذ مأمون الهضيبي(مرشد الإخوان المسلمين سابقا), والأستاذ فريد عبد الكريم( القيادي الناصري/القومي), والأستاذ محمد فريد عبد الخالق(المفكر الإسلامي, وأحد أبرز القيادات التاريخية لجماعة الإخوان) رحمهم الله جميعا. كان أكثر ما لفت نظرنا آنذاك الاحترام المتبادل بين أولئك الذين أدلوا بشهاداتهم الثقافية والسياسية برغم اختلافاتهم الفكرية والأيديولوجية. وكان محور شهادة الأستاذ فريد عبدالخالق رحمه الله هو الحرية. وفاجأنا برأيه الإيجابي في ذلك الوقت عن التيارات العلمانية اليسارية والليبرالية والقومية وكانت حماستنا كبيرة, وعلمنا قليلا, وخبرتنا لا تذكر وكان مما قاله إن هذه التيارات خدمت التيار الإسلامي خدمة جليلة, ولولاها لما تطورت بعض أفكارنا, ولا تجددت اجتهاداتنا في بعض القضايا الكبري. سألناه كيف ذلك؟. قال رحمه الله: إن الانتقادات التي وجهتها تلك التيارات لأوضاع المجتمع وسياسات السلطة ولأطروحات التيار الإسلامي بصفة عامة هي التي استنهضت همم المفكرين الإسلاميين وأشعرتهم بوجوب الاجتهاد ومعالجة قضايا الواقع ومواجهة تحدياته. وقال أيضا: يا أخي إن أي عقيدة أو مذهب أو أيديولوجية ينام عنها أصحابها إذا لم يكن لها مناوئون ومعارضون, ونحن نحمد الله أن معارضينا ومنتقدينا كثيرون وإلا لغلبنا النعاس, ولما برحنا مواقعنا, ولما تقدمنا خطوة واحدة للأمام. شرح لنا في شهادته أيضا معني قول الله تعالي في سورة المؤمنون( الآية117): ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون. وكان مما قاله إن هذه الآية تؤسس لحرية الفكر, وحرية الاعتقاد بشرط واحد هو توافر الدليل والبرهان, وأن ما لا يجوز إثباته هو فقط ما برهن عليه. ولهذا كانت حرية الفكر وإعمال العقل بحثا عن الحقائق هي أثمن النعم التي أنعم الله بها علي بني الإنسان. كان الأستاذ فريد من أوائل قادة الحركة الإسلامية الذين مارسوا النقد الذاتي, وكتب ونشر في ذلك بحوثا متعمقة منها بحث بعنوان زالإخوان المسلمون.. فكرة وحركةس. ومنها كتاب الإخوان المسلمون في ميزان الحق الذي صدر عام1987 م. كما امتدت همومه لتشمل مآسي المسلمين في مختلف أنحاء العالم, وكتب ملحمة شعرية بعنوان مأساة المسلمين في البوسنة والهرسك صدرت عام1993 م, ثم تبعها ب ديوان المقاومة في عام2003 م, ثم تأملات في الدين والحياة عام2003 م. وفتح أبوابا جديدة للاجتهاد في كتابه في الفقه السياسي الإسلامي الصادر عام2007 م. وأخيرا كانت رسالته للدكتوراه من كلية الحقوق بجامعة القاهرة, وهو في الرابعة والتسعين من عمره بعنوان الاحتساب علي ذوي الجاه والسلطان. وكانت الحرية هي المبدأ الرئيسي الذي نسج عليه كل تفاصيل رسالته هذه. ومن أعظم ما أكد عليه فيها هو أن زالاحتسابس أو المعارضة بلغة السياسة علي الحكام هو الضمانة الأساسية للحريات العامة. وأن ممارسة الاحتساب في مجتمعاتنا المعاصرة يجب أن يتم من خلال مؤسسات مدنية تعبر عن إرادة الأمة وتحميها من الطغيان. وبرغم المحن الكثيرة التي تعرض لها الأستاذ فريد عبد الخالق, وأفقدته حريته لسنوات طويلة بالسجن والاعتقال والمحاكمات الظالمة قبل ثورة يوليو عام1952 وبعدها, إلا أن إيمانه ظل راسخا بأن الحرية هي ماء الحياة, وأن سلبها من أي إنسان بغير وجه حق هو أعظم عند الله من سلب الحياة ذاتها. بدأ حياته بحثا عن الحرية حتي وجدها في عمق الإيمان بالله تعالي. وختمها وهو علي يقين بأن الطريق إليها طويل جدا. يبدأ دائما ولا ينتهي أبدا. رحمه الله برحمته التي وسعت كل شيء. لمزيد من مقالات د.ابراهيم البيومى غانم