عندما يسترد الشعب حريته, ويصبح هو السيد أو مصدر السيادة في أي بلد, لا يبقي خوف هنالك أو فزع. قد تأتي الانتخابات بما لا يشتهيه بعض الناخبين. فلابد أن تكون نتائج الانتخابات, أي انتخابات. في مصلحة فريق أو أكثر. ولكن من يخسرون الانتخابات لا ينبغي أن يقلقوا, مادام الشعب حاضرا ومتفاعلا ومشاركا. ويعرف كل من قرأ تاريخ الديمقراطية في العالم أن الشعب الذي يذوق حلاوة الحرية ويشعر كل من أبنائه بأنه يشارك في صنع مستقبله لا يفرط فيما ينعم به ولا يسمح لأحد بأن يحرمه من هذه النعمة. وبالرغم من أن الانتخابات البرلمانية الحالية لا تزال في بدايتها, وأن مرحلة ثانية فيها ستبدأ غدا وتليها أخري ثالثة, فقد أثبت شعبنا أنه خرج من القمقم الذي حبس فيه طويلا, وأن علي الأحزاب والقوي السياسية جميعها أن تثق به. فليس في إمكان من لا يثق في شعبه أن يتطلع إلي فوز انتخابي أو إلي دور سياسي يعتد به. فأحد أهم محددات التنافس الانتخابي هو مقدار ثقة المتنافسين في الناخبين. وقد ثبت, علي مدي تاريخ الانتخابات, أن من يبدأ السباق الانتخابي ولديه ثقة أكبر في شعبه يتمتع بميزة علي غيره الذي قد لا يشعر بمثل هذه الثقة. وينعكس ذلك, في الأغلب الأعم, علي الاستراتيجيات الانتخابية. فالحزب أو المرشح الأكثر ثقة بشعبه يعتمد استراتيجية انتخابية إيجابية تركز علي تقديم نفسه إلي الناخبين وتسعي إلي الاقتراب منهم. أما من لا يثق بقدرة شعبه علي الاختيار, أو تقل هذه الثقة لديه مقارنة بغيره من منافسيه, فهو يلجأ في كثير من الأحيان إلي استراتيجية انتخابية سلبية تركز علي مهاجمة منافسين آخرين وشن حملات مضادة لهم أكثر مما يسعي إلي الاقتراب من الناخبين. كما تقوم هذه الاستراتيجية علي محاولة حشد قطاع محدود من الناخبين, وبالتالي توجيه الخطاب إليه دون غيره أو أكثر من غيره, علي نحو يفقده القطاعات الأخري أو يضعف فرصته في أوساطها. وقد شهدت المرحلة الأولي للانتخابات المصرية اختبارا جديدا لهذا الافتراض أثبت صحته مرة أخري. فأحد العوامل الأساسية وراء المفاجأة الأولي في هذه الانتخابات, وهي القفزة الكبيرة التي حققها حزب النور وحلفاؤه السلفيون, هو لجوء بعض خصومه إلي شن حملة انتخابية سلبية ضد التيارات الإسلامية عموما. فقد حولت هذه الحملة الانتخابات إلي معركة علي الهوية بدلا من أن تكون منافسة علي السياسات والبرامج والخطط اللازمة لمواجهة الخراب الموروث وإعادة بناء مصر. وعندما تكون الحملة الانتخابية السلبية مرتبطة بقضية الهوية, تصب في مصلحة من يقدمون أنفسهم باعتبارهم حراسا لهذه الهوية أو يروجون لفكرة أنها مهددة. ويرتبط بذلك العامل الثاني وراء المفاجأة التي حققها تحالف النور, وهو نجاحه في تحويل جمهوره الدعوي إلي قاعدة انتخابية له. فقد ركز هذا التحالف علي الجمهور الذي ارتبط به من خلال عمله الدعوي الذي انشغل به خلال العقود الماضية حين لم يكن له أي نشاط سياسي. وكان هذا الجمهور مهيأ لتقديم الدعم الانتخابي لأولئك الذين ارتبط بهم من خلال عملهم الدعوي. فلم يتح الوقت لهذا الجمهور لكي يتعرف علي ملامح الخريطة السياسية والأطراف الأخري فيها. ولذلك كان منطقيا أن يقف وراء الدعاة الذين ارتبط بهم حين صار بعضهم سياسيين وحزبيين. غير أن الحملة الانتخابية السلبية ضد التيارات الإسلامية دعمت هذا الاتجاه وضمنت لحزب النور وحلفائه قاعدة انتخابية تلقائية, وأضافت إليها ناخبين آخرين بسطاء يخلطون بين الهجوم ضد هذه التيارات حين يكون ضاريا والموقف تجاه الإسلام نفسه. ولذلك حصد تحالف حزب النور ضعف الأصوات التي كان متوقعا أن ينالها علي الأقل, إذ كان معظم التوقعات قد ذهبت إلي إمكان حصوله علي نحو10 في المائة من هذه الأصوات. وحدث ذلك علي حساب حزب الوسط وحلفائه المنشقين كلهم تقريبا علي جماعة االإخوان المسلمينب التي حقق حزبها االحرية والعدالةب وحلفاؤه في التحالف الديمقراطي نتيجة قريبة من تلك التي كانت متوقعة عشية الانتخابات أو أكثر قليلا. فقد أدي اتمددب حزب النور وحلفائه انتخابيا إلي انكماش قاعدة حزب الوسط الانتخابية التي تضم نوعين من الأصوات الانتخابية هما االصوت الإسلاميب الذي لا يؤيد االإخوانب وحزبهم, والصوت الليبرالي المحافظ اجتماعيا. فقد اضطر بعض أصحاب االصوت الأولب إلي الاقتراع لمصلحة حزب النور, نتيجة تركيز المعركة الانتخابية علي قضية الهوية. كما أن التركيز علي هذه الهوية حرم حزب الوسط من دعم بعض أصحاب الصوت الليبرالي المحافظ اجتماعيا. ويمكن فهم ضعف نتيجة حزب الوفد التي تعتبر هي المفاجأة الثالثة, باعتبارها أثرا آخر لتحويل الانتخابات إلي معركة علي الهوية في المقام الأول, الأمر الذي حرم هذا الحزب العريق من جزء أساسي من أصحاب الصوت الليبرالي الذين تأثروا بالاستقطاب الذي أحدثته هذه المعركة فابتعدوا عن الحزب الوسطي الذي حمل تاريخيا راية الوطنية المصرية. كما حرمه هذا الاستقطاب من أصوات المصريين المسيحيين التي كانت جزءا أساسيا من قاعدته الانتخابية تاريخيا, ولكنها ذهبت في هذه الانتخابات إلي االكتلة المصريةب. غير أن المرحلتين الثانية والثالثة قد تشهدان تغيرا في بعض المعطيات الانتخابية علي نحو قد يؤثر في النتائج النهائية, ولكن دون أن يؤدي إلي تحول جوهري في موازين القوي التي أظهرتها المرحلة الأولي. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد