أزعم أن الثورة العربية التي تجتاح عالمنا العربي من خليجه إلي محيطه ليست إلا محاولة واجتهادا وسعيا للبحث عن هوية مستقبلها وكرامة أجيالها القادمة, أو قل بإيجاز إنها ثورة لوضع حد لعصر غابت فيه الحرية, وفقدت الشعوب خلاله سماتها وخصوصية أوطانها وملامح حضارتها الخالدة, إنها دعوة للتغيير والانطلاق نحو آفاق مستقبل أرقي وأفضل. ويجدر ملاحظة أمر معبر وهام, إن الثورات لم تصرخ الموت لإسرائيل أو الموت للشيطان الأكبر أمريكا, بل ارتفعت الأعلام الوطنية, ففي ثورة تونس كان اسمها فوق كل لسان, وفي ثورة ميدان التحرير رفع العلم المصري, وبادرت الثورة الليبية قبل كل شيء برفع علم الثورة, ومن الأمور الواضحة في تلك الثورات انها لم تلجأ إلي عداء دولة ولم تستخدم العنف ولم تطلب الموت حتي لجلاديها وحكامها, بل ابتعدت عن استدعاء الشعارات الدينية, ولذا يمكن القول دون إسراف إنها ثورات المستقبل القادم علي الحاضر الراكد المستكين وعلي الماضي الأليم الذي قيدت فيه الشعوب في سجون من الفكر المتجمد والتقاليد البالية بل والأساطير الباطلة, هذه الثورات خروج من كهوف الخوف والإذلال الي ساحات الأمل والاعتزاز بالوطنية والعزة, وأروع ما في هذه الثورات بعدها التلقائي عن كل تطرف أو تعصب أو تزمت, كأنها تفتح صفحة جديدة في تاريخ العرب بعد قرن من الزمن, انطلق فيه العالم الي حضارة علمية وتكنولوجية وسقطت فيها الحواجز الجغرافية بل والتاريخية, وجاءت الثورة لتسقط الحواجز النفسية, لقد جاهد أبطال الاستقلال لطرد المستعمرين الغربيين وحرروا بلادهم وسعوا إلي إقامة أوطان حرة مستقلة, وخاضوا حروبا لتحقيق أهدافهم, ثم سرق الحكام فيما بعد هذه الأوطان وتحكموا في شعوبها عقودا طويلة حتي جاءت هذه الثورات لتعيد الكرامة المفقودة. هذه الثورات العربية تواجه تحديات تنذر بخطر إجهاضها والعودة بالشعوب الي عصور الصمت والخوف بل إلي الفقر والجوع وفقدان الحرية والكرامة, ومن هذه التحديات الفتن الطائفية, والتطرف الديني, رفض الحداثة والديمقراطية, وينبغي أن نعترف أن عقلية الفرعنة أو الدكتاتورية لاتزال تسيطر علي فكر شعوب المنطقة التي تخشي كلمات مثل المساواة والمواطنة وحقوق الانسان. والعدالة وسيادة القانون, بل لست مسرفا إذا قلت إن فئات كثيرة تتمني حاكما ديكتاتوريا يعيد الاستقرار والأمن بشرط أن يكون ديكتاتورا عادلا وكأنهم يبحثون عن وهم وسراب فلم يلد التاريخ البشري ديكتاتورية عادلة أو ديكتاتورا صالحا, لأن الديكتاتورية في ذاتها شر وبلاء مستطير وهي من بقايا أساطير الحكم بالتفويض الإلهي أو الثيوقراطي, وعصمة الحاكم ذاتها من بقايا عصور الخوف من اقتحام المشكلات والمغامرة بالتجديد, تلك كانت واقعا عند الشعوب التي تعيش مرحلة الطفولة السياسية والثقافية والدينية. لقد انحسرت فكرة القومية العربية بعد هزيمة1967 وكان لابد لأيديولوجية جديدة تحل محلها وتنتشر في العالم العربي ووجد التيار الديني فرصته ونما وترعرع حتي أضحي قوة مؤثرة في كل أنحاء الوطن العربي, وبرغم الحماس والانتشار فإن القضايا العربية تراجعت بل لم تجد حلولا ولم تتقدم التنمية ولا ساد القانون وسرق الحكام الأوطان حريتها الحقيقية وكرامة تاريخها بل ورؤيتها للمستقبل لذا تواجه الثورات العربية هذه التحديات, وأمام تحد الفتن ينبغي أن يقوم القانون سدا منيعا, فالمساواة بين البشر من القيم الثابتة, والمواطنة هي البديل لهذه الفتن فلا فضل لعربي علي أعجمي إلا بالتقوي, وأمام تحد التطرف الديني ينبغي أن تكون العدالة الحكم الرادع بلا تمييز أو تفرقة فتلك منحة من الخالق حرية العقيدة والعبادة وليس من حق إنسان ان يسلبها من إنسان مختلف عنه دينا أو مذهبا, أما رفض الحداثة والعلوم فهذا سير ضد التاريخ والتقدم, والعالم دوما في جديد والمستقبل دوما لم يبدأ بعد.. تري هل تعبر الثورات العربية هذه التحديات, أزعم أن الشعوب العربية قادرة علي ذلك بكل ما تملك من أسباب القوة والحكمة والخبرة ولا خوف من المستقبل. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته