ليس في الكون صدفة أو حدث يأتي ضربة لازب وليس في الوجود أمر يحدث من فراغ بل لابد من مقدمات وأسباب, فكل شيء خلق لما يسر له, وقل الأمر ذاته عن قوانين التاريخ, فللحضارات مراحل عمر تمر بها كما يمر الإنسان من الطفولة إلي الشيخوخة, وليس في الوجود عبث أو فوضي فأرسطو يري أن الخالق تبارك وتعالي خلق السموات والأرض ووضع لها قوانين صارمة لا تحيد عنها والله لا يخون قوانينه, كما أنكر أرسطو فكرة العناية والرحمة بالإنسان لأنها فكرة انبثقت من كتب الوحي ومن الإيمان ولم تنبثق من الفلسفة. ويميل طه حسين في كتابه من بعيد إلي فكرة ضآلة الإنسان أمام ضخامة الكون والوجود حتي لا يظن أنه مركز الكون, معني ذلك فيما أزعم أن الثورات العربية لم تسقط من عل, ولم تتفجر دون أسباب ومقدمات, بل ولدت من رحم الشعوب ومن أحزانها ومن أحلامها, فالقهر والظلم, والبؤس والفقر والطغيان والتجبر, أمور سحقت معني الحياة وقتلت الأمل, ويدرك البشر أن دوام الحال من المحال. لقد اختزن الوجدان العربي آلامه قرونا طويلة من القرن الحادي عشر حتي القرن التاسع عشر, عاشت الشعوب العربية فيما يشبه السجون النفسية وضيق الخناق علي العقل العربي لولا توهجات العباقرة والمصلحين لقضي عليه تماما, ثم أشرق عصر النهضة العلمية بداية القرن الخامس عشر الميلادي (التاسع الهجري) وغامر الفكر الأوروبي واقتحم كل التقاليد الموروثة وحطم كل أنواع الخوف, وعبر بحر الظلمات أو المحيط الهادي, وتكلم الفلاسفة والمفكرون عن وحدة الجنس البشري والمساواة بين الرجل والمرأة وتمردوا علي سلطات رجال الدين واللاهوت, وانتشرت عبارات واضحة فاصلة, حرية العقل, كرامة الإنسان, قيمة الحياة, قيمة العمل ولم تعرف كلمة ديمقراطية بمعناها الحديث إلا في فرنسا نحو القرن السادس عشر, وقد تدفقت المكتشفات الحديثة, في الجغرافيا وعلم الآثار, وعلم جسد الإنسان, وتغير العالم في الغرب تغيرا جذريا, وانكب علي أسرار الطبيعة فحصا وتدقيقا ليغترف من كنوزها ويستنزف خيرات الأمم التي كانت تغط في نوم عميق من الأساطير والخرافات والخضوع لكثير من الأوهام وكأنه قدر كتب عليها لتظل في البؤس والجهل والشقاء. وتفجرت الثورات الحقيقية في العالم العربي خلال هذا القرن وفي بدايته لم يقم بها جيش أو قوات مسلحة, لم يشعل نارها قادة أو سياسيون أو رجال دين, وإنما من رحم الشعوب ولدت, من أبناء الطبقة المتوسطة التي لم يطحنها فقر مدقع أو يدمرها ترف سفيه, ولست مسرفا إذا قلت إن الذين يحملون شعلة الثورات في العالم العربي شبابها البسيط إن صح هذا التعبير, لا تدفعهم إلي ذلك أيديولوجية, ولا يشدهم تطرف سياسي أو ديني, وليست لهم رؤية لمستقبل محدد واضح, بل هم صدي لآلام شعوبهم, وصرخة الأعماق من أجل الخروج من كهوف عصور الجهل والظلم والطغيان, وفي زعمي أن أكثر ما يخيف الدول الكبري وما يقلق دولة إسرائيل من هذه الثورات أن شبابها لا يدخل في دهاليز السياسة ويرفض الحروب والعنف وسفك الدماء, إنهم شباب يريدون أن يعيشوا بشرا لهم وطن حر, وإرادة حرة, وعقل حر, ليست لهم أطماع خارج مصالح وطنهم وينكرون كل علاقات تحت جنح الظلام أو الخديعة, تلك رؤية شباب الثورات العربية التي يواجهها بالسلاح الرهيب حكام لا يدركون بعد سر تطور التاريخ وتقدم الحضارات وطموح الشعوب, ثورات الشباب العربي سبقت فكر الحكام الذين ظنوا أنها عاصفة صبيانية أو انتفاضة شباب سرعان ما تخبو نارها ولم يعلموا أنها تحول تاريخي ساحق واندفاع إلي المستقبل, وأنها قانون من قوانين التطور للوجود وللواقع وأنها نقطة فاصلة في تاريخ الأمة العربية وإن شئنا أن نلمح إلي بعض نقاط مشتركة بين هذه الثورات, نشير إلي أربع منها: هذه الثورات العربية كافة ترفض الماضي الحزين, والاستسلام للمذلة كقدر محتوم علي شعوبها, إنها تود أن تستعيد كرامة الإنسان العربي. هدفها إقامة العدل والمساواة, لقد نهبت أوطانها خلال قرون طويلة واستحوذت القلة علي ثرواتها وآن الأوان لإقامة عدل وطني فليس من العدل أن يعيش أناس في القبور وآخرون يعيشون في القصور, ليست دعوة شيوعية أو مذهبا اشتراكيا أو رأسماليا, إنما هي دعوة للتضامن الوطني وتضييق الهوة بين أبناء الوطن. ثورات فيها إيمان وتقوي وورع فالدين عاصم لها من التطرف والانحراف إلي العنف والعداء فنحن نسمع في اليمن, في سوريا, في تونس, في قلب الوطن العربي في مصر صوتا ينادي بدولة مدنية مؤمنة, تأخذ بأسباب العلوم والحضارة والتنمية وترتكز علي قيم أصيلة دون غلو أو إكراه, إنه صوت النهضة الحديثة في عالمنا العربي. آمل بل أزعم أن هذه الثورات بعد أن تستتب الأمور وتنجح في التغيير وهي بلا شك ناجحة, أزعم أنها ستلتقي في طريق بناء أمة جديدة, بل أزعم أن ما عجز عنه الحكام والساسة من توحيد الوطن العربي, ستنجح فيه هذه الثورات الشبابية والشعبية, وقد يؤرق هذا الفكر بعض المتخوفين والمترددين أمام الثورات ولكني أجزم بأن الثورات العربية هي إضافة للحضارة الإنسانية ستلحق بركب التقدم حتي لو كان الثمن باهظا والتضحيات جسيمة ومذ متي يتقدم العالم دون شهداء تسقي الأرض الطيبة بدماء طاهرة. المزيد من مقالات د. الأنبا يوحنا قلته