لاشك في أن النظرة المستقبلية لأي شيء تعني الوعي بضرورة امتلاك رؤية محددة للاصلاح عبر قراءة الواقع واستشراف المستقبل, وهي مسألة محمودة في كل الأحوال. لأنها تعني أننا اصبحنا نعي اهمية التخطيط الاستراتيجي للمستقبل, ونمتلك القدرة علي تفعيل هذه الخطط وتنفيذها عبر تحديد الأهداف وتحقيقها واحدا بعد الآخر وذلك عبر آليات محددة للتنفيذ والمتابعة. وان كان ذلك أمرا محمودا في أي مجال من المجالات, فانه يكون أكثر أهمية بالنسبة لمستقبل التعليم عموما والكليات المعنية به علي وجه الخصوص, وأعني به كليات التربية وقد تشرفت في الأسبوع الأول من مارس الحالي بحضور مؤتمر اقليمي يتناول مستقبل كليات التربية في الوطن العربي عقد علي هامش الاجتماع السنوي الثاني عشر للجمعية العلمية لكليات التربية في الوطن العربي بالعاصمة السودانية الخرطوم واستضافته جامعة أم درمان الاسلامية. هل يكون دور كليات التربية مقصورا علي اعداد المعلم فيما يعرف بالنظام التكاملي أم يكون دورها مكملا لكليات العلوم والآداب فيتم فيها تأهيل الحاصلين علي الشهادات العلمية في هاتين الكليتين تحديدا تأهيلا تربويا فيما يعرف الآن بالنظام التتابعي, الحقيقة ان عدة أوراق ناقشت قضية كليات التربية بين النظام التكاملي والنظام التتابعي ويبدو أن معظم الآراء تميل الي الجمع بين الطريقتين كما هو معمول به الآن في مصر وفي بريطانيا علي سبيل المثال. والحقيقة ان المسألة في اعتقادي ليست في أي النظامين افضل, فلكل منهما مزاياه وعيوبه, وانما المسألة تتلخص في التأهيل السليم للمعلم علي أي من النظامين, فكلاهما مناسب لظروف فئة معينة من المعلمين. إن مستقبل كليات التربية يتوقف علي مدي الحرص علي جودة العملية التعليمية داخلها فلقد وفرت الدولة عبر مشروع تطوير كليات التربية الامكانيات المادية والوسائل التكنولوجية والمعامل الحديثة الي حد كبير, وعلي القائمين علي هذه الكليات وعلي وحدات الجودة داخلها مراقبة ومتابعة تنفيذ بقية خطة التطوير بالجدية الواجبة سواء فيما يتعلق باتقان المادة العلمية واعادة تحديثها باستمرار أو باستخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة والاستفادة من المعامل الموجودة, وكذلك مراعاة الجودة في تنفيذ التدريب الميداني للطلاب, ويجدر بوزارتي التربية والتعليم والتعليم العالي أن تفكرا معا في شراكة يتم بموجبها تخصيص مدارس بعينها تكون تابعة لكليات التربية بالمحافظات المختلفة لتكون هذه المدارس أشبه بمعمل للكلية للتدريب العملي فيه علي طرق التدريس الحديثة مما يوفر فرصة جيدة للتأهيل السليم لمعلمي المستقبل ولاغرابة في ذلك فقد كان الأمر معمولا به في بداية نشأة معاهد المعلمين العليا وقبل أن تتحول هذه المعاهد الي كليات تربية. ولعل من أبرز مالوحظ خلال هذا المؤتمر تلك الزيادة المطردة في انشاء كليات التربية في العالم العربي وخاصة في السودان البلد المضيف حيث تضاعفت أعداد كليات التربية وهذه الزيادة الكمية تثير دائما التساؤل عن أمرين؟ أولهما: مدي جودة تأهيل خريجي هذه الكليات التي ربما تتأسس بدون كوادر تدريسية مؤهلة ولديها الكفاءة والكفاية؟ وثانيهما: مدي حاجة سوق العمل الي هؤلاء المعلمين وخاصة اذا لم يكونوا مؤهلين التأهيل المناسب والذي يلبي الحاجات المتطورة لسوق العمل؟! ولعل ذلك هو مادفعني الي الاشارة الي امكان تحويل الاهتمام من انشاء كليات التربية الي انشاء كليات لرياض الأطفال حيث لايزال الاهتمام محدودا بتخريج المعلمة المؤهلة للتعامل مع الطفل في هذه المرحلة السنية المهمة من3 6 سنوات برغم أنها السنوات التي تتشكل فيها قدرات الطفل العقلية ويمكن فيها اكتشاف قدراته الخاصة ومواهبه اذا اكتشفت وركزت المعلمة علي تنميتها وتوجيهها التوجيه السليم من خلال طرق التعليم غير التقليدية المدروسة جيدا لدي هذه المعلمة المؤهلة. واذا مافعلنا وركزنا عليه لأصبح لدينا الأطفال الموهوبون الذين يملكون قدرات ابداعية متنامية وقادرة علي الاستيعاب السريع في مجال موهبتها ولأصبح لدينا الشباب النابغون في كل المجالات. ان الاهتمام الذي توليه دولنا العربية للتعليم الأساسي ينبغي أن يواكبه ويعلو عليه اهتمام بمرحلة الطفولة المبكرة في سن ماقبل المدرسة حيث من الضروري أن يتعامل مع الطفل في هذه السن معلمه روضة مؤهلة قادرة علي تعليمه من خلال اللعب وقادرة علي اكتشاف مواهبه وتنمية قدراته الابداعية بوسائل غير تقليدية تدربت عليها جيدا في الكليات المتخصصة برياض الأطفال والطفولة المبكرة وقد لاحظت حين الاشارة الي تجربة مصر في انشاء أول كلية متخصصة في رياض الأطفال منذ عام1988 والتوسع في انشائها حتي بلغت حتي الآن ست كليات, لاحظت اهتمام الزملاء العرب من عمداء كليات التربية بهذا الأمر وطلبوا المساعدة في انشاء كليات متخصصة في تربية الطفل حتي تتكامل المنظومة التي تتولي تربية وتعليم النشء منذ الطفولة المبكرة وحتي اتمام الشهادة الثانوية. ولعل من المناسب هنا تأكيد أن قضية تطوير المحتوي الدراسي وتحديث طرق التدريس هي العنصر الحاسم في اعداد المعلم سواء معلمة الروضة أو معلم التعليم الأساسي والثانوي حيث أن بعض الأبحاث التي نوقشت قد لاحظت التدني الواضح في المحتوي الدراسي للمقررات الدراسية في كليات التربية وكثرة الحشو والتكرار وغياب التحديث والابداع في هذه المقررات من قبل الأساتذة الذين لايحرصون علي تطوير مادتهم العلمية ويبقون عليها كما هي لعشرات السنين, كما لاحظت ابحاث أخري أن الطرق التقليدية في التدريس لاتزال هي السائدة رغم أننا نعيش عصر التكنولوجيا المتقدمة ونعيش عصر الفضائيات والانترنت وكلها وسائل تكنولوجية لو أحسنا استخدامها لتغيرت صورة نظمنا التعليمية ولحدثت ثورة في طرق التدريس في جامعاتنا وبالتالي في مدارسنا فالثورة المعرفية الهائلة التي أصبحت سمة واضحة من سمات القرن الواحد والعشرين تتيح لنا أن نركز في نظمنا التعليمية من حيث المحتوي ومن حيث طرق التدريس علي منهج مفاده: بدلا من أن تحشو رأسك بمعلومات للتلقي والحفظ علمني كيف أحصل علي المعلومات بنفسي ان هذه الرؤية المبسطة الماثلة في هذه العبارة السابقة هي الرؤية التي تمثل الثورة الحقيقية في مجال التعليم والتعلم في عالم اليوم, فبدلا من أن نركز في مناهجنا وفي طرق تدريسها علي اكساب الطالب ذلك الكم الهائل من المعلومات في أي مقرر دراسي يدرسه, علينا أن نركز علي تدريبه علي كيفية الحصول علي هذه المعلومات من مصادرها المتنوعة ورقية كانت أو الكترونية أو متحفية أو معملية بنفسه, ان اكتشاف الطالب للمعلومات بنفسه هو الذي سيتيح له في المستقبل طرق الابداع في أي مجال معرفي سيستهويه ويتخصص فيه فضلا عن أنه يمثل المرتكز الأول من مرتكزات التفكير العلمي ذلك التفكير العقلي المنظم الذي يمثل في عالم اليوم الأساس في التقدم الحضاري والابداع العلمي علي حد سواء. ان مستقبل الأمة وليس فقط مستقبل التعليم أو مستقبل كليات التربية في مصر والعالم العربي متوقف علي بث روح التفكير العلمي في مجتمعنا وبين شبابنا, فالتفكير العلمي هو الأسلوب الوحيد الذي يتيح لنا تشخيص كل مشكلاتنا التربوية والتعليمية التشخيص الموضوعي السليم, وهو كذلك الأسلوب الوحيد الذي بموجبه يمكن تحديد الخطوات الواجبة لحل هذه المشكلات والتغلب عليها, وهو بوجه عام الأسلوب الوحيد الذي يمكننا من أن نتحول في كل حياتنا من حال التخلف والجمود الذي نحن فيه ونعاني منه الي حال التقدم والابداع الذي نطمح اليه ونتمناه جميعا لمجتمعنا ولأمتنا, ان التفكير العقلي والعلمي المنظم هو طريقنا ليس الي التقدم في كل مجالات الحياة فقط, بل هو طريقنا الوحيد للحاق بركب التقدم العالمي والمنافسة فيه.