ملصقات تملأ الجدران ولافتات معلقة علي الأشجار, وباصات مكدسة بالركاب المتحمسين تمرق سريعا بينما سماعات الميكروفونات الموضوعة في مقدمتها تدوي بأغان حماسية تتخللها دعايات انتخابية لمرشح من الدائرة. رياح باردة شديدة تهز بإصرار بعضا من هذه الملصقات واللافتات, تصمد فروع الأشجار بينما تقع اللوحة المزينة بصورة المرشح علي وجهها في التراب, يرفعها أحد أولاد البلد وينظف وجهها بكم قميص. ثم ينتبه لصورة المرشح الملقب بالوحش فتنبض جيناته الساخرة وهو يقول بأعلي الصوت: وقع الوحش, يضحك العابرون والجالسون علي المقاهي من المفارقة, ثم يعاودون ترقب قوافل المرشحين التي ستأتي إلي المقهي لأول مرة وبعد نجاحهم أو فشلهم سيختفون فص ملح وذاب هذا هو حال منطقة وسط البلد حاليا, وأعتقد انه حال يتطابق في كل بقعة من أرضنا المحروسة, غير أن التوأمين وجيه ورءوف سيكونان جالسين في نفس مكانهما المعتاد, في مواجهة محل التحف الذي يعملان به, علي كرسيين من البلاستيك الأزرق, وبيد كل منهما جهاز راديو صغير (مضبوط علي نفس المحطة ويبث نفس الأغاني) أصابع اليد اليمني لهما ستجدها تدق دقات خفيفة علي الكرسي بتوافق مع إيقاع الأغنية, واليد اليسري بكاملها تسند الراديو إلي الأذن, ستجدهما متطابقين تماما رغم أن كلا منهما في ملكوته الخاص, عيون تراقب ببلادة بوابة المحل ورأسان يتحركان طربا, ملابسهما دائما متماثلة مع تغيير طفيف في الألوان, وملامحهما وتفاصيل جسديهما يكادان يكونان نسخة واحدة, وجه الأخ الأكبر وجيه يبدو أحيانا صارما عن وجه الأصغر رءوف, الفاصل الزمني بين عمريهما خمس دقائق, لن تستطيع التفرقة بينهما بسهولة حتي لو كنت تعرفهما منذ سنوات, لكنهما أراحانا عندما أصرا علي وضع كاب فوق الرأس عندما ستصادفهما قادمين يتسندان علي بعضهما البعض, وهما في طريقهما إلي العمل, ابتسامتهما جميلة وطريقة مشيهما أخاذة, وطريقتهما في التودد إلي الناس الذين يمرون بهما غير مسبوقة, سيلفت نظرك أنهما يتوقفان كثيرا أمام المحال التي يعرفانها ليسلما علي أصحابها ومديريها, أحدهما يبدأ بالسلام والثاني يكرره كأنه صدي صوت, يخطئان غالبا في أسماء الأشخاص, والناس تبتسم ولا تعلق, يربتان علي الرءوس والأجساد الجالسة كأنهما يمنحان البركة, يكملان سيرهما بعد أن خلفا وراءهما فيضا من الطاقة الإيجابية, لو تبسم لك الحظ وجالستهما, فستسمع قصصا مدهشة عن تفاصيل عملهما الحكومي في وزارة الزراعة, وعن عملهما الإضافي في معهد الموسيقي العربية,مسئولين عن حفظ وتخزين الآلات الموسيقية, وكيف تعلما عزف آلة الكمان واشتراكهما بها في الأفراح والملاهي لمدة بسيطة, بعد أن أحبطهما الجو العام هناك, في صباح يوم 28 يناير الفائت, رأيتهما ينظفان الأرض قبالة المحل, غير مهتمين بالتحركات التي تحدث بجوارهما, ثم اتجها إلي مسجد الرحمن لأداء صلاة الجمعة, وبدأت أحداث الثورة, وفي غضون ساعات قليلة تبدلت أحوال وسط البلد, امتلأ جوها بالروائح النفاذة للقنابل المسيلة للدموع ومخلفات كيروسين قنابل المولوتوف وبالدخان, وفر اليمام والعصافير متخليا عن أعشاشه بأعالي الشجر, واختلط صراخ الفزع بسارينات الشرطة والاسعاف والسيارات الخاصة التي تلتمس طريقا للنجاة, وعلي الارض كانت الأوضاع أكثر عشوائية, جحافل من بشر تكر وتفر في اتجاهات مختلفة, وأجسادا تنهار وتتساقط. بعدها بأيام قليلة انقسمت منطقة وسط البلد إلي دوائر شتي, دائرة تبدأ من ميدان عابدين حتي ميدان باب اللوق يسيطر عليها البلطجية, ودائرة أخري من ماسبيرو حتي ميدان طلعت حرب يهيمن عليها نفس الفصيل, وشوارع جانبية يقف علي رأسها الخرتية من يقدمون إلي السائحين كل الخدمات المشروعة وغير المشروعة بالعملة الصعبة وكل هؤلاء مدججين بالأسلحة وزجاجات المولوتوف ومتأهبين للشر, حتي نصل إلي مناطق قليلة آمنة يحرسها الثوار, النهار بكامله في وسط البلد كان ساحة للمعارك, وفي الليل هدنات قصيرة تنتهك احيانا عند سقوط زجاجات المولوتوف من فوق الأسطح علي الأرض. وجيه ورءوف اللذان يمشيان معا وأقل حصوة بالطريق تستطيع اسقاطهما أرضا, ماذا سيفعلان وسط هذه المعارك الضارية؟ كان مصيرهما يقلقني جدا أثناء وقائع الثورة, وكنت أبحث عنهما كثيرا, مثلما كنت أبحث عن هذه السيدة المسنة النحيلة التي تمشي باعتدال وكبرياء, ملابسها نظيفة لكن من الطراز القديم, لاتزال ترتدي الجيب والتايير التقليدي موديل السبعينيات وتضع فوق بشرة وجهها النحاسية بودر أبيض ثقيل يتخلل التجاعيد, كانت تأتي إلي المقهي مرة أو مرتين في الأسبوع, تمنح مدير المقهي بسمة محايدة وهي واقفة بأدب, يومئ لها المدير برأسه بما معناه انه موافق علي استخدامها هاتف المقهي, باصابعها النحيلة تتصل برقم محدد أكثر من مرة وغالبا لا تتلقي الرد, تقول للمدير- رغم انه لم يسألها- ان صديقتها نائمة وانها لا يمكن أن تتجاهل مكالمتها, تغادر المقهي ثم تعود بعد ساعة, ثم بعد ساعة أخري حتي ينتهي النهار, ويتكرر الأمر في اليوم التالي حتي ترد عليها صديقتها, حينئذ تتهلل أساريرها ويظلا يتكلمان باللغة الفرنسية لأكثر من نصف ساعة, ثم تغادر المقهي تكاد تطير فرحا. كما افتقدت التوأمين أثناء الثورة, افتقدت هذه السيدة وقلقت علي مصائرهم جميعا, فهم من سكان وسط البلد ومن قلب الحدث, لكني رأيتهم أخيرا سالمين ويتصرفون بنفس الأداء, كأن عناية الرحمن كانت تبسط عليهم رحمتها وتؤازرهم وتنأي بهم عن الأخطار, كأنهم كانوا يعبرون فوق جسر من محبة, حفظهم لبساطتهم ووداعتهم واستسلامهم التام لمصيرهم المكتوب. المزيد من مقالات مكاوى سعيد