عندما وقع في قبضة الثوار, حاول خداعهم بإنكار هويته. فقد كان يتخفي في زي رجال القبائل. لكن الثوار تفرسوا في ملامح وجهه, وفطنوا الي حقيقته. واعتقلوه. وصار خائفا ومذعورا. فقد تقوضت السلطة التي كان يحتمي بها, ويستمد منها رعونته وصلفه. ولم يعد أمام سيف الاسلام القذافي, ابن الطاغية الليبي مفرا ولا مهربا. لحظة سقوط الطاغية الصغير جديرة بالتأمل. فما إن يخرج من قصر السلطة المطلقة حتي يستجدي الرحمة من الضحايا, مثلما استجداها والده ملك الملوك قبل سحله وقتله. والمذهل في ظاهرة الطغاة العرب أنه لا تخطر ببالهم نهايتهم المحتومة. فما أن اندلعت الثورة في تونس, وهرب الطاغية بن علي, حتي ردد أقرانه في بلدان عربية.. مصر ليست تونس, وكذلك ليبيا وسوريا واليمن. ولعل حسني مبارك كان الاكثر اطمئنانا إلي أن طريق الثورة مسدود بمتاريس أجهزة الأمن. ومن يجرؤ علي مجرد الاحتجاج تقتنصه مصيدة النظام وتوسعه الهراوات الغليظة ضربا مبرحا. ولا بأس من أن يلقي حتفه في طقوس التعذيب الهمجية. وبلغ مبارك وزبانية نظامه أوج استبدادهم وفسادهم, عندما زوروا نتائج انتخابات برلمان.0102 وبدا متهللا ومزهوا وهو يقول للقوي المعارضة التي تعتزم تشكيل برلمان مواز.. خليهم يتسلوا. وكأن مبارك كان يستعير شعار الطاغية فريدريك الكبير الذي حكم بروسيا من0471 وحتي.6871 فهو القائل: لقد انتهيت أنا وشعبي الي اتفاق.. يقولون ما يشتهون, وأفعل ما اشتهي. وعندما عارضه الفيلسوف الشهير فولتير, زج به في السجن. وكانت خطيئة فولتير انه ظن أن في وسعه أن يجعل منه ملكا عادلا. وظل سنوات طوال, يسدي إليه النصائح, ولكن دون جدوي. سخرية مبارك.. خليهم يتسلوا.. عجلت ضمن أسباب جوهرية أخري بثورة52 يناير التي اطاحت به. وقال الحكماء لقد سقط رأس النظام, ويتعين الاجهاز علي النظام ومؤسساته حتي تكتمل انشودة الثورة. ولأن ذلك لم يتحقق, تصاعدت الانذارات من مخاطر اختطاف الثورة. وعربدت فلول الثورة المضادة, في ظل الانفلات الأمني, وتفشت حالة من الغموض والارتباك والارتجال في مرحلة ما بعد مبارك. وتفاقمت المخاوف, عندما بدأت فلول النظام القديم تستجمع قواها تحت لافتات حزبية وسياسية جديدة ومراوغة تأهبا لاعادة انتاج نظام مبارك. وزاد الطين بلة, أن طائفة من النخبة السياسية بدت وكأنها عقدت اتفاقا سريا مع مافيستو شيطان اسطورة فاوست. وهي اسطورة قديمة عقد فيها الدكتور فاوست اتفاقا يمنحه الشيطان بمقتضاه الشباب والقوة لمدة أربع وعشرين عاما, مقابل أن يموت في نهايتها. ومنذ أبدع الشاعر الالماني جوته هذه الاسطورة عام1381 صارت مضربا للأمثال في التحالف البائس بين المثقفين الطامحين للسلطة وشيطان طموحاتهم الجامحة. مثل هؤلاء, تقافزوا فوق المنصات السياسية والاعلامية بينما تتراكم أخطاء فادحة في ادارة المرحلة الانتقالية. وهذا ما دفع شباب الثورة للعودة الي ميدان التحرير. وعندئذ أذهل الجميع أن أجهزة الأمن تمارس في غلظة عنفا مفرطا غير مبرر.. إنهم يقتلون المتظاهرين في محاولة يائسة لمنعهم من ترديد أنشودة الوطن والحرية والعدالة الاجتماعية. وتقتحم فلول الثورة المضادة الميادين, وتبدأ حرب الشوارع ويصبح المشهد مثيرا للقلق والغضب. ولأول مرة, منذ الزمن القديم تكتمل أسطورة فاوست.. ويدرك القاصي والداني من هو شيطان المرحلة الانتقالية. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي