تابعت بشغف ما نشر في الملحق الثقافي للأهرام, عن قضية( خطابنا اللغوي.. إلي أين ؟) للدكتور محمد رياض العشيري, حول موقف لغتنا الجميلة الحالي من طبيعة الخطاب في المجتمع وفي دائرة أفراده, ومن خطاب المرأة علي وجه الخصوص, ومن وضع اللغة بصفة العموم في صحفنا ووسائل إعلامنا المختلفة, ومن مواقع التواصل الاجتماعي بالشبكة العنكوبتية, والواقع إن الذي يريد أن يعرف بحق موقع لغتنا المقدسة من الإعراب في ضوء الوضع الثقافي الحالي. ويستقرئ الدور الذي يجب أن تنهض به حاليا, باعتبارها ضمير الأمة الحي ولسانها الأمين, فعليه أن يعي أن ما جري للغتنا الطاهرة طوال السنوات الماضية علي وجه التحديد إنما كان أشبه بعمليات التهميش المستهدفة وبفعل فاعل, وبسياسات منظمة طوال فترة الفترات المنقضية, وبصورة مزرية مقصودة, فقد عاشت هذه اللغة الخالدة طوال الحقبة الماضية في أزمة حقيقية فاقت مراحل التهميش إلي الإنكار لدورها التاريخي والديني والعلمي والفكري الكبير, ويتبدي ذلك بجلاء من عدة زوايا يمكن القياس بها, أو الاحتكام إليها في فهم ما كان يحاك لمستقبل هذه اللغة المقدسة والتاريخية, ومن أهم تلك المعايير هو ما رأيناه ومازلنا نراه من تكالب الأسر المصرية علي التعليم الأجنبي والتجريبي والخاص, والذي يدرس فيه الطلاب اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية والألمانية كلغات رئيسة علي حساب اللغة الأم, حيث أصبحت دراسة مواد العلوم الأساسية كالرياضيات والعلوم والهندسية والكيمياء والفيزياء وغيرها باللغات الأجنبية, رغم أن معظم مكتشفي هذه العلوم في الأصل هم من العرب الأفذاذ كجابر بن حيان, وابن الهيثم, والكندي, والهمداني, وابن رشد, والمرزوقي وغيرهم العشرات والعشرات ممن لا يتسع لهم المجال, ولكن باتت التركيبة الثقافية لفكر الأسر المصرية بفعل السياسات التعليمية للنظام السابق تتمركز في النظر لمستقبل أولادهم من منظار التعليم الأجنبي, وهو منظار لا بأس به إذا حقق منظومة الوسطية في الدمج الدراسي بين دراسة العلوم باللغات الأجنبية والعربية علي حد سواء, مع الإبقاء علي نصيب دراسة اللغة العربية في مكانها العالي والمرموق, وظني أن إعطاء دراسة اللغة وفنونها وجمالياتها حقها يكون من خلال تمييزها بدرجات تقديرية عالية تفرق بينها وبين بقية العلوم الأخري, ومن ثم سيتوجه اهتمام الأسر وأبنائنا الطلاب تلقائيا إلي دراسة اللغة علي درجة من درجات الاهتمام والوعي المطلوب( هل يعقل أن يكون نصيب الدرجات للغتنا العربية في الثانوية العامة هو30 درجة فقط بعد أن كانت60 درجة في كل سنة من سنوات الدراسة الثانوية طوال فترة السبعينيات وما قبلها من العقد الفائت) وإلي جانب السياسات التعليمية التي رأت في تعليم اللغات الأجنبية حبل النجاة للمستقبل الفريد علي حساب اللغة الأم, لمسنا الدور الكبير الذي قامت به ومازالت بعض أجهزة الأعلام ومعظم الفضائيات لتخريب بنية لغتنا الفصحي, وذلك بتغليب اللغة العامية المبتذلة والدارجة بل ولغة الشارع علي بنية الخطاب الإعلامي مما ساعد هذه الفضائيات علي اختلاق لغة جديدة وغريبة علي مجتمعنا, فلا هي تمس الفصحي بأي وجه من وجوه القرابة, ولا هي تعانق عاميتنا الفريدة والتي يرد كثير من أصولها إلي لغتنا الفصحي الأصيلة بعناق الأصل والرحم, بل هي لغة إن صح تسميتها بلغة خليقة من نبتة غير أصيلة أضرت بأصول اللغة, وأفسدت نسقها العام, وشوهت طبيعتها الناصعة, وإذا لم تصدر الدولة ممثلة في وزارة الإعلام ميثاق شرف إعلاميا ينص علي الحفاظ علي هوية اللغة وأصولها وفصحاها, ومعاقبة المخالفين لهذا الميثاق, فبالتأكيد ستسوء الأمور أكثر من ذلك. وحتي لا نطيل كثيرا, وحتي نضع أيدينا علي محاور الأزمة التي أحاطت بلغتنا الجميلة, وأعاقت انطلاقها علي الألسنة بشكل سليم يتناسب مع جمالياتها وفنونها وسلامة بنيتها, وكيفية علاج هذه الأزمة في المرحلة المقبلة علي الوجه الصحيح والمرتجي, فلابد من النظر إلي أصل الأزمة الحقيقية من الجذور, وظني أن هذه الأزمة تتشكل من ثلاثة محاور تمثل أضلاع العملية التعليمية بأكملها.. وهي: مناهجنا الدراسية: ونقصد بها بالطبع مناهج اللغة العربية في مدارسنا وجامعاتنا علي حد سواء, وهي مناهج قديمة وعقيمة لم يتم تطويرها وتعديلها منذ زمن بعيد, وفي حاجة إلي معالجة معاصرة, من أجل إحلالها وتبديلها علي هيئة معاصرة متكاملة, فإذا أردنا حقيقة أن نطور مناهج اللغة العربية فمن واجبنا أن نبدأ من محور( تحرير اللغة) بداية من الصفوف التعليمية الأولي, وحتي المرحلة الجامعية, ونقصد بتحرير اللغة تخليصها من القوالب والموضوعات التي تفصل بين فروعها المختلفة, وأقسامها المتعددة, فتدريس لغتنا الجميلة عبر مناهجنا يتم إلي الآن في وحدات دراسية مختلفة وفي جزر متباعدة, عبر مناهج النحو والصرف والأدب والبلاغة والنصوص الأدبية في مواد منفصلة, ومنعزلة عن بعضها البعض, من غير رابط يربط بينها, مما أدي إلي فقد اللغة أصلا أصيلا من جمالياتها, وركنا أساسيا من أركان توحيد نغماتها, التي لا تتكامل إلا بصهر فروعها في أصل تطبيقي واحد, وقد اطلعت علي ذلك بنفسي ومارسته خلال عملي في جامعات البلدان الخليجية والعربية التي طبقت هذه النظم الجديدة في المناهج الدراسية وجنيت ثمارها, ويمكننا أن نوجز تلك الاقتراحات فيما يلي: أولا: يمكننا تدريس اللغة عبر منظومة موحدة تجمع بين أصولها وآدابها, بحيث تكون دراسة كل فروعها بشكل تطبيقي, عبر نصوص من الأعمال الأدبية الكبري الشيقة والمؤثرة والمنتقاة بدقة سواء من تراثنا الأدبي القديم أو من أدبنا المعاصر, ومن ثم تتوحد الفائدة, باعتبار أن الطالب سيدرس علوم اللغة وفنونها كالنحو والبلاغة والتحليل الأدبي من خلال نص أدبي مميز يجذبه ويؤثر فيه, ويخلد في ذاكرته. ثانيا: بالإمكان إعداد لجنة من الخبراء وعمداء كليات اللغة العربية والمعنيين بدراسة اللغة, وكبار شعراء مصر وأدبائها, لوضع المناهج اللازمة لتطوير دراسة اللغة بالصورة الجديدة المقترحة, علي أن تكون مهمة اللجنة هي الوصول إلي كيفية صهر كل علوم اللغة وفنونها في بوتقة واحدة, تفيد الطالب والدارس, وتحطم حاجز التشتت والفرقة بين مختلف علوم اللغة وآدابها. ثالثا: يمكن أن يعمم هذا النظام بصفة تدريجية, تبدأ من مراحل التعليم الإعدادي, ومن ثم الثانوي, ومنها إلي المراحل الجامعية المتخصصة في دراسة اللغة وغير المتخصصة, بحيث يستطيع الطالب أن يستوعبها ويتذوقها ويتمكن منها, ويدرك من خلالها كيفية التعامل مع كل فنون اللغة وعلومها مجتمعة. رابعا: تدريب معلمي اللغة العربية, كذلك الخريجين الجدد من العاملين بالسلك الجامعي علي هذا النمط الدراسي الجديد عبر دورات شاملة ومعدة بصورة دقيقة تحت إشراف أساتذة اللغة في جامعاتنا, علي أن يمنح المعلمون والدارسون شهادة اعتماد موثقة من وزارتي التربية والتعليم, والتعليم العالي تؤكد استيعاب الدارس طرق الدراسة التطبيقية الجديدة للغة وفنونها. أساليب التدريس: من أكبر المشكلات التي تعوق عملية انطلاق اللغة, وتحليقها في فضاء الألسنة, والشغف بها, والتمكن منها.. أساليب تدريسها وخاصة بالمراحل التعليمية قبل الجامعية.. حيث تعاني اللغة من حالة تردي شديد ونكوص واضح.. بسبب طرق التدريس لفئة كبيرة من المعلمين التي حولت اللغة في مدارسنا من ملكة تذوقية جمالية ومهارية يفطن لها الطالب ويتمرس عليها إلي( كبسولات) تعليمية, من باب اختراق اللغة ظنا منهم أن ذلك من سبيل التيسير علي المتعلمين, فأصبحت علوم النحو والبلاغة واللغة والأدب مجرد علوم تعريفية يحفظها الطالب عن ظهر قلب من غير أن يكتسب ملكاتها وفنونها, وروحها.. فتساوت علوم اللغة وهي فنون تذوقية وسماعية في الأصل بالعلوم المادية الأخري, ومن ثم قتلت مباهجها, ورموزها, وطبيعة تذوقها, ودرجات قبولها, وتحولت إلي علم جامد لا حياة فيه, بعد أن خلع عنها رداء التأثير والتأثر, وفقدت قنوات توصيلها وتأثيرها في الطلاب والدارسين. مستوي الخريجين: يعتبر تراجع مستوي الخريجين لكليات اللغة العربية ودار العلوم وأقسام اللغة العربية بكليات الآداب والتربية من أكبر المشكلات التي تواجه عملية النهوض باللغة, علي اعتبار أنهم بلا خلاف معلمو المستقبل, والسبب في ذلك كله يرجع إلي سياسات القبول بالجامعات, وبمجموعة الكليات المعنية بدراسة اللغة وعلومها, والتي تفتح أبوابها للحاصلين علي الثانوية العامة من غير قيود أو شروط تؤهل الطالب لدراسة اللغة وفنونها وآدابها, والاكتفاء بالسياسة التوزيعية لمكتب التنسيق الجامعي, مما أدي إلي تكدس أعداد كبيرة في الكليات والمدرجات مع عدم الاستيعاب للمناهج والدراسات اللغوية والبلاغية, والافتقاد التام لدروس التطبيق والتدريب, وانعكاس الأمر نفسه علي الأساتذة والمحاضرين الذين يجدون أنفسهم في قلب هذه الأعداد الكبيرة غير قادرين علي العطاء أو التقييم الأمين لجيوش الطلاب والخريجين مما يفقدهم الدور الحقيقي لطبيعة وظيفتهم التعليمية البحتة, وظني أن إعادة النظر في سياسات القبول بكليات اللغة العربية وأقسامها بكلياتنا المختلفة, وتطبيق نفس شروط القبول والقواعد الخاصة بقبول المتقدمين لدراسة اللغات الأجنبية كالإنجليزية والفرنسية من عقد مقابلات شفهية وتحريرية لاختيار أفضل المتقدمين لدراسة العربية وأصولها, باعتبار أن دارسها متحمل لمسئولية كبيرة, أجلها مسئولية تعليم الأجيال, وتوعيتها بجماليات لغتهم الأم. إذن فنحن بحاجة ماسة وسريعة لإنقاذ اللغة من خلال ضبط محاورها الثلاثة, ونقصد بها محاور المنهج والمعلم وطريقة التعليم والتعلم, ومن قبل ذلك كله ضبط الخطاب الإعلامي وإذا نجحنا في ذلك سنكون قد وصلنا بها إلي محطة الأمان وبر السلامة.