للحياة أسرار غريبة, وأنا أعد لهذه القصة, أتذكر كل تفاصيل تلك الحادثة.. فهناك في الحياة أسرار لم أصل إلي أغوارها بعد. وأنا أقول سرا, فأنا أشير إلي القوي الخفية والتي لم تكتشف كهنتها بعد... فهناك المئات بل الآلاف من الأحداث التي تقع أو تمر في حياتنا اليومية, ونراها دائما بسيطة وعادية جدا ولايتبادر إلي ذهن أي إنسان أن بها سر ما ولكن إذا ما أمعنا النظر فلسوف نكتشف كم من الأسرار.. أو كم من المعاني تكمن في هذه الأحداث البسيطة والعادية...! آزاد هو صديق عمري منذ الطفولة والشباب, ولدنا معا وتربينا معا وذهبنا إلي المدرسة معا.. وقضينا الجزء الأكبر من حياتنا معا.. وكم من الألعاب اللطيفة لعبناها معا...! وكم من الأوقات الصعبة قضيناها معا...! ولكن كانت هناك حالات لم نأملها.. لأننا قد ولدنا وترعرعنا سويا... كنا نعرف مشاعر بعضنا البعض, لأننا نشأنا معا وعشنا معا نفس الظروف ونفس الحياة.. كان صمته وسكوته طبيعيا بالنسبة لي.. ولم أر في ذلك أي شيء ولكن كلما كبرنا بدأت هذه المشاعر تؤلمني.. كنت أغضب أحيانا.. فأمسك بتلابيبه وأصرخ. آزاد... تحرك.. تكلم.. إضحك.. أو ابكي لاتجلس هكذا مغمض العينين وكأنك ميت. أنا أعرف أن كلماتي تؤلمك.. ربما تكون راضيا عن كلماتي أو غير راض... فإن كنت حيا, فأعلن عن ذلك.. أو إن كنت متوفيا.. إبن مرحوم.. ولكن كل مذمتي هذه القاسية لم تكن تجدي معي.... كان يرفع رموشه وينظر إلي من تحت حاجبيه, ثم يغمض عينيه مرة أخري, أو يركزهما علي شيء مجهول. كانت هذه الخاصية غريبة جدا فيما بين الأصدقاء. ولم يكن في مقدوري تغييرها.. إن آزاد قد ولد في ليلة شديدة البرودة حيث كان مولده في الشتاء. وأمه المسكينة لم تصدر حتي أي صوت علي الإطلاق حين ميلاده, بينما كل السيدات يصرخن ويولولن عند المخاض والميلاد... هكذا جاء إلي الدنيا دون أي ضجيج. وحتي أمه سليمة لاتذكر إن كان قد بكي أو صرخ حين ميلاده بل أجابت علي حين سألتها بابتسامة صامت. لم يكن أي أحد من رفاقه يناديه باسمه, بل كانوا ينادونه ب سكوتي وحتي مع مرور الزمن نسي الجميع آزاد وعرفوه ب سكوتي كانوا يقولون: جاء سكوتي وذهب سكوتي لدرجة أن هذا اللقب الذي جاءه بالصدفة انتقل إلي السجلات الرسمية.. وصار آزاد سكوتي. أحيانا, كانت تنتابني بعض الأفكار... حول أنه لم ير أي يوم سعيد في حياته, بل قضي أيامه صعبة ولم يسعد قط. فمنذ طفولته وهو يعاني من الفاقة والحاجة. كان كل فراش نومه هو حصير ممزق علي أرضية غرفة شديدة البرودة.. لقد توفي والد آزاد قبل ميلاد الابن بشهرين فقط.. وبقيت الأم سليمة وحيدة حيث كانت هي أيضا يتمية يقال إن رجلها كان تبريزيا وكلاهما معدم.. بعد أن مات الزوج, طرقت الزوجة كل الأبواب بحثا عن عمل تقتات منه هي وابنها, أحيانا كانت تنظف المنازل.... وأحيانا تمسح البلاط... وأحيانا تغزل الصوف.. وحتي آزاد ولدته وهي تغزل الصوف.. وبعد أن أصبح صبيا لم ينم ولو لأسبوع واحد علي مرتبة أو تغطي بلحاف.. وحتي بعد ميلاده بأسبوع واحد, تركته وحيدا في الغرفة وخرجت للعمل حتي لايموت الوليد جوعا.. كانت كل أمانيها وأمنياتها في هذا الطفل.. لم يكن عندها أو لديها من هو أعز منه... كانت سليمة هانم ليس لديها إبن آخر غير آزاد.... هو ملجؤها في الحياة.. لا والد ولاجد ولاأخ لها... ولاتريد سواه.. ما أن تنظر إلي آزاد حتي تنسي كل متاعبها وشكواها.. وتترك كل مشاعرها له. كانت هناك أوقات سعيدة... وما أسعدها حين كانت تجلس بيننا...! ونحن فيما بين الخامسة أو السادسة من العمر وهي تقص علينا حواديت قبل النوم.. كنا نصغي إلي قصصها بآذان مشرئبة... وفي الصباح نسألها عما بعد القصة... فتعاود القص من حيث توقفت. وكانت تسعدنا من جديد... كانت في كل مساء تحتضننا... وتعطيني من حنانها مايمكن أن تعطيه لي أمي. كانت حكاياتها تنقلنا فورا إلي عالم الخيال. وكثيرا ماكنت أري تلك الخيالات في أحلامي.. كانت حكاية أروع من سابقتها.. هذه اللحظات من أسعد ذكرياتي... تسعدني.. وتبهجني.. أحيانا كانت سليمة هانم تقطع الحكاية.. وتترنم لنا بأغنية حزينة من ذاكرتها.... كم كان هذا الصوت الرخيم يبدو لنا سعيدا ياصديقي.. أن نغماتها مازالت تتردد في أعماق قلبي بترنمها.. وأنسها... وحزنها.. وحتي الآن... لم تستطع أي موسيقي أخري أن تنسيني.. فما زالت أصواتها تداعب روحي.. ويخيل إلي أن هذه المتعة مازالت هي أجمل مايعيش في خيالي.. ولكن يمكنني تكرارها في أي زمان. أحيانا, أيضا, لم نكن نفهم كلمات هذه الحكايا... كنت أظنها شكاوي أحيانا, وأخري أظنها ذكريات أليمة.. أو توسلات لشخص ما... لكن هي كانت تستمر في دغدغتها.. وتذوب مشاعرها وهي تخلق موسيقي تذكر بفقفقة الشاي وهو يغلي.... وتضيع خيالاتنا في كلماتها... أما هي فقد كانت تستمر في كلماتها المنغمة حتي يسلبنا النوم ولاندري متي توقفت. ذات مرة.. وفي إحدي الأمسيات.. أخذت برأسينا هذه الحزينة وأسندتها علي ساقيها.. وأخذت تترنم بأحزانها.. تقص.. تقول.... تتنهد.. تترنم.. تتحدث عن تساقط أوراق الشجر.. وعن الطيور التي هاجرت وتركت أعشاشها.. ومن حين لآخر تنحي وتقبل وجنة آزاد أو تتنهد باسمه... وكلما استغرقت أنا في النوم كنت أسمع صوتها القادم من بعيد.. كان الصوت يأتيني منقطعا..!... رجائي الوحيد.. أملي الفريد. أنت عصفور عشي... أنت سندي ودعامة بيتي... أما آزاد فقد كان ينام في صمت. ما أن كبرت قليلا حتي أدرك عقلي أن آزاد هو كل أمل سليمة هانم في الحياة... من بعدها أدركت أنا كل شيء... أدركت أن كل خيوط هذه المرأة المسكينة مرتبطة بابنها آزاد وبوجوده.. وبعد أن فهمت بدأت أشعر بالأسف.. لأنني لم أر في آزاد الأمل والحلم الذي تحلم به سليمه ولايمتلك القابلية التي تنتظرها منه.. كنت أفكر دائما, هل آزاد هذا السكوتي سيستطيع أن يؤمن الحياة التي تجعل سليمة تغض الطرف عن طرق الأبواب..؟.. في رأيي أنا... لا ووصلت إلي هذا القرار.. فبالنسبة لي.. إن آزاد لايملك القوة التي تؤهله لكي يفتح يديه وذراعيه لكي ينطلق ويخترق سرداب الحياة كنت أتألم لحال الأم سليمة, التي فتحت الحيات ذوات الأربعين رأسا أفواها لتبتلعها.. كان قلبي يحترق من أجل الأم سليمة.. آهاتي ستحرق آزاد.. ستمزقه وتبتلعه.. كنت أبذل قصاري جهدي من بعيد لكي ينطلق... ذات يوم دفعته إلي الذهاب إلي سوق تبريز فيكفيه أن يحمل علي ذراعيه بعض الجوارب... كان هذا بالنسبة لي مايكفي آزاد.. أنا لم أكن أطلب منه أكثر من هذا.. ولم أكن أقصد غير ذلك. طوال سنتين ذهب معي إلي المدرسة.. لم يكن يقترب من أي أحد هنالك.. فخلال فسح الدراسة كان كل الأولاد يلعبون معا إلا هو فقد كان يتنحي جانبا ويستغرق في التفكير ناظرا لما حوله.. وإذا ما سأله المعلم كانت سحنته تحمر تماما... وعلي الرغم من أنه كان يعرف كل شيء إلا أنه لم يكن يستطيع أن يتكلم.. وفي سن التاسعة أخذته أمه من المدرسة لأنه لن يستطيع أن يدرس.. توسلت إلي أحد الجيران ورجته أن يبعث به ليعمل صبيا بجوار ترزي في تبريز... مرت السنوات أنهيت أنا المدرسة المتوسطة... أما هو فلم يبرح مكانه... ذات مرة مررت علي محل الترزي.. ناداه الأوسطي... ولم يكن قد قطع علاقته بي... بل علي العكس من ذلك فكلما كبرنا زادت ألفتنا وصداقتنا.. كانت الحياة تقرب فيما بيننا.. في وقت أخرجتني حوادث الزمان عن طوري.. أما هو فظل ساكتا وصامتا أمام تلك الحوادث... لم يكن يهتم.. لم تكن أي مطالب أو احتياجات تخرجه عن طوره أو تفسد عليه نظامه.. ذات مساء لم يكن في بيتنا أي طعام.. بينما كنت أنا أتذمر وأغضب.. كان هو وحتي لو ظل جوعا لثلاثة أيام لم يكن ليفتح فمه أو يقول كلمة واحدة.. بالرغم من ذلك.. لم أكن أنا أفتقد أحدا سواه, سواء في أيام الأفراح أو الأتراح... وكنت عندما أشعر بالحاجة إلي الصحبة أو المؤانسة, أهرع إليه فورا.. كان في كل مرة يحتملني يصغي إلي كل ماأقوله, سواء أكان خيرا.. أم شرا... فلا فرق لديه ذات يوم من أيام محني... هب لمساعدتي.., كنت قد تأخرت في دفع الإيجار.. وهددنا صاحب البيت بالطرد.. لانقود لدي.. ولم أجد عملا اتكسب منه.. بعد أن تعبت من اللف والدوران ومزلة السؤال, ذهبت إلي آزاد.. آزاد.. آلامي كالجبال... أريد أن أبكي... ولكن لاتدمع عيناي... ماهذه المعيشة؟ وما هذه الحياة....؟ آزاد...! لا مكان للعمل ولا إمكانية للدراسة في الجامعة... هل أسرق..؟ أم ماذا أفعل ياأخي؟ يدي سليمة.. ذراعي سليمتان.. قويتان.. أشعر أن بداخلي قوة تحرك الجبال... ماذا يحدث لي؟... ماذا في مقدوري أن أفعل..؟ لماذا تتبدد قواي...؟... والله... داخلي... نيران.. لو قالوا اهرب فلسوف أهرب!.. ولكن إلي أين...؟ هل إلي حانة السموم..؟ أم أطفيء فانوس عمري بيدي...؟ أم أهرع إلي مكمن الاستخبارات..؟ تملكه الغضب... وما أن هممت بالحديث.. فجأة توقف ونظر إلي... ثم أمسك بإبرته مرة أخري وبدأ يعمل... وما أن انفجرت بالحديث... وضع هو إبرته علي الأرض... وحول نظرته الصامتة إلي.. قلت... آزاد.. لقد هرمنا ونحن في الرابعة والعشرين من عمرنا... أربع وعشرين سنة.. من يدري.. ربما نحن لم نعش إلا نصف عمرنا.. ربما سنة واحدة بالكاد... ماذا رأينا نحن خلال تلك الأربع والعشرين سنة؟ إذا ما سألونا عما هي الحياة.. فأي جواب سنقدم..؟ واضح. ما معني عمر الإنسان؟ لماذا جاء الإنسان إلي الحياة...؟ ولماذا يفني بعد مدة من الزمن... يموت ويذهب...؟ إن هذه الأفكار تقلقني في الأيام الأخيرة.. عند التصور أننا من الممكن أن نموت بعد سنة أو بعد شهر يتملكني الوهم.. ماذا رأيت أنا في الحياة..؟ وفي النهاية ماذا فعلت لأذهب..؟ فلسوف ينسوننا في صباح يوم وفاتنا.. لم نفعل مايجعلهم بسببه يتذكروننا... ما هي الحياة بالنسبة لنا؟ ما معناها..؟ بعد مرحلة إدراكنا لم نر سوي الجوع والحاجة والفاقة والتشرد.. هل هناك غير هذا.؟ بالنسبة لي.. فإن حياة أي طائر أو نملة أفضل من حياتنا أو ذات فائدة عنا.. وأكثر عقلا.. نحن... قد عشنا بلا أمل.. بلا هدف بلا غاية.. ولم نرغب في أي شيء أو ننتظر أي شيء.. في الصباح كل الحيوانات لم تبق في حظائرها.. خرجت ترعي.. أما نحن فقد بقينا حين نحن.. الحيونات تجولت بين المراعي حتي المساء... أما نحن فقد تملكنا النوم وظللنا نياما.. وقضينا أيامنا في سبيل هذه الغاية لم يتجاوز فكرنا قطعة من البوريك أو موقد فحم في الشتاء... أي أمل أو أي غاية قد ملكت علينا قلوبنا..؟ هل هي الحياة هكذا؟.. هل هذه هي غاية الحياة؟ عليك أنت تعلم أن النقود ليست هي مكمن تفكيري أو الجوع هو مصدر خوفي.. لا يا آزاد..! إن فكري مفعم بأشياء أخري.. أنا أنظر إلي محيطنا هذا الضيق.. يأكلون ويمرحون أنظر إلي أصحاب المناصب.. أنا أعرف بعضهم... بل واقف وعالم أيضا بنمط حياتهم وطرز تفكيرهم... هل لأنهم قد عرفوا معني التعايش أكثر منا؟ لأي أمل سوف يذكرونهم بعد موتهم بيوم أو أيام..؟ هل لأنهم منحوا الإجازة للمدمن والفاحشة..؟ إن حياة تلك الحيوانات أكثر فائدة من حياتهم.. فعلي الأقل هناك خير أما من وراء هذه الحيوانات. أم هم فيأكلون ويشربون... ينامون ويسمنون من البطالة.... يسأمون من التخمة... يسومون الشعب كل أنواع العذاب.. لاينشغلون ولو لمرة واحدة بما يشغلنا نحن في الحصول علي لقمة خبز...! فبأي شيء تنشغل أدمغتهم؟ بينما آمال مجتمعاتنا الرديئة لاتسئمهم..؟ لنفرض أنهم أكلوا كل عام ثلاثين ألف كيلة من أرز العالم وخمسمائة برطمان من الزبد.. وآلاف الحملان.. وقضوا الليالي الطوال في أحضان النساء.. وقضوا عشر سنوات أو عشرين أو ثلاثين سنة من عمرهم علي هذا المنوال.. فما هي النهاية...؟.. وإذا ما أصبح الصباح وأكل من بقي علي قيد الحياة منهم الأرز والزبد وتملكه الطمع والجشع والتملك... وإذا ما رأي امرأة غيره كان كل همه افتراسها كالحيوان المفترس.. لن تشبع بطونهم في أي زمان.. ولن نراهم وقد تخلصوا من حرصهم وطمعهم.. فكل ما سوف يكسبونه هو غضب ونفور الشعب.. هل الحياة هي عبارة عن هذا....؟ أنا لم ولن أريد حياة كهذه.. كل ماأريده هو العمل ياآزاد..! أي عمل.. يري من يأتي بعدنا خيرا من هذا العمل.. أنا سأرحل.. لأكن خادما لرب عمل, أو بستانيا.. علي الأقل أغرس شجرة أو أقطف ثمرة... ليري البشر خيرا من بعد الموت.. ويترحمون علي إذا ماذكر إسمي... رغم كل ماقلت... لم يحرك آزاد ساكنا... ولم ترتعش شفتاه بلفظة واحدة... فقد تسمرت عيناه علي نقطة ما... أنا لم يراودني الشك في أي وقت في أنه لن يفعل شيئا... زاد إدراكي في أنه لن يفكر في أي مشكلة أو مسألة.. ربما يظنني لست سعيدا.. بل متشائما... عبوسا. أردت أن أعدل من غطاء رأسي وأخرج من الدكان.. فلم يتحرك من مكانه.. فنظرت أنا إليه.. وقلت: آزاد.. لو لم تكن أنت في هذه الدنيا, لقتلت نفسي أنا منذ زمن بعيد... ولكن صرفت النظر لأنني أرعاك.. وكنت أطمئن نفسي ربما تكون هناك فائدة مني إليك.. وأسفاه.. وألف أسفاه.. كنت أخاطب نفسي قائلا لي ولد سوف يرعانا.. وأسفاه علي هذه الوردة التي يسمونها أرض آذربيجان.. أنا وأنت نسير علي ترابها.. فما رأت منا خيرا أي فائدة رأتها..؟ هل زرعنا أرضها..؟ هل بنينا مدنها...؟ هل افتتحنا مصانعها..؟ هل أدرنا ماكيناتها وآلاتها....؟ لو أن هذه الأرض في أيدي غيرنا.. لجعلوا كل شبر فيها عروسا متجلية.. لحولوها إلي جنة يعيش فيها كل المواطنين كأرباب عمل... ولجعلوك تعيش حياة كريمة.... هذا واضح ياعزيزي آزاد. البقية العدد القادم